يعلمنا فلاسفة الإغريق أن الفضيلة وسط بين رذيلتين، فالشجاعة فضيلة لأنها وسط بين الجبن والتهور، والكرم فضيلة لأنه وسط بين البخل والإسراف، والطموح كذلك فضيلة لأنه وسط بين الخمول والطمع.
هذه الفضائل هي التي تقيم المجتمعات، وتحافظ على استقرار واستمرار الأمم والشعوب، وبدون الفضائل الخلقية والاجتماعية تنهار المجتمعات، وتتحول إلى غابات من الحيوانات المفترسة التي لا يتورع أيا منها على أن يأكل الآخر إذا احتاج ذلك ليستمر في الحياة.
الفضائل في المجتمع أهم من كل الحاجات المادية لأنه بدونها يفقد المجتمع صفته الإنسانية، ويصبح جحيما لا تطيقه الأنفس السوية، وكثير من مجتمعاتنا العربية خصوصاً تلك التي شهدت ثورات تحول فيها الثوار إلى ثيران هائجة تحطم كل شيء؛ من أجل لا شيء سوى أوهام تاريخية لقنتها جماعات توظيف الدين لتحقيق طموحات الدنيا وأطماعها وشهواتها في السلطة والسيطرة والتحكم والعلو.
وفي ظل هذا التيار الجارف من استخدام الدين - الذي هو القوة الوحيدة القادرة على تحرير الإنسان من سيطرة شهواته وأهوائه - في تحقيق أغراض دنيوية تساقطت الفضائل الخلقية الفردية والقيم الجماعية المجتمعية، وداستها جموع الزاحفين نحو تحقيق الطموحات المادية الدنيوية؛ حتى وصلنا إلى حالة انقلبت فيها الفضائل إلى رذائل؛ لأنها تجاوزت الحد وانحرفت عن الوسط، وأخذت أحد الطرفين وصرنا نعيش في مجتمع من الرذائل المتطرفة.
الطموح فضيلة إنسانية راقية؛ لأنه حالة وسطى بين الخمول والركود من جانب، والتهور والطمع والجشع من جانب آخر، وفي عصرنا هذا اجتمع النقيضان وتوحد الطرفان وسقط الوسط، اجتمع الخمول والركود والكسل مع التهور والطمع والجشع في قلب رجل واحد، أو في قلب كل رجل وكل امرأة، الجميع يريد تحقيق أقصى الأحلام التي تغذيهم بها إعلانات التلفزيونات والصحف دون أن يبذلوا جهداً يستحقون به أن ينالوا ما يحقق طموحاتهم أو بعضها.
هناك قانون اجتماعي ينظم طموحات الإنسان؛ يسميه البعض "الواقعية"، وهو أن تكون الطموحات متوافقة مع الإمكانيات البشرية والمادية والاجتماعية، فيكون طموح عامل اليومية أن يجد عملا دائما يحقق له الأمان الوظيفي والاستقرار الاجتماعي، ويضمن له دخل يمكنه من العيش الكريم، ويكون طموح الطبيب أن يملك عيادة خاصة وسيارة وشقة….إلخ.
هذا هو الطموح عندما كان الطموح فضيلة أي وسط بين الخمول والجشع، وهذه الفضيلة تتحقق حينما تكون الطموحات متوافقة مع الإمكانيات، أما عندما تضيع الفضيلة ويتحول الطموح إلى رذيلة تجمع المتناقضات؛ وهي الخمول والكسل مع الجشع والطمع؛ هنا تنفصل العلاقة بين الطموحات والإمكانيات، وتتحول الطموحات إلى معول هدم لكل قيم المجتمع، وكل علائقه، وكل نظمه وقوانينه؛ فيبدأ المجتمع في الانهيار والتفكك حتى وإن كان أفراده يحققون إنجازات اقتصادية ملحوظة، حتى وإن كان مستوى المعيشة لطبقة واسعة منهم مرتفعاً، حتى وإن كان ظاهره تنمية وازدهار.
عندما تكون الطموحات أكبر بكثير من الإمكانيات تظهر كل القيم السلبية في المجتمع فتنتشر الرشوة والفساد والسرقة والنهب، وتعلو قيمة المادة على ما عداها من القيم فتصبح التضحية بالقيم من أجل المال مبررة ومقبولة في سبيل تحقيق الطموحات التي تفوق بصورة خيالية الإمكانيات.
الطموحات التي تفوق الإمكانيات جعلت أستاذ الجامعة يعمل سمسارا للعقارات أو يبيع الامتحانات، وجعلت الطبيب يسرق أعضاء مرضاه، وجعلت القاضي يخون أمانة العدل والضابط يرتشي…إلخ، جعلت الجميع يقع في بئر الفساد والرذيلة.
انشغل المثقفون بالسياسة، وانشغل الدعاة ورجال الدين بدنياهم وسياراتهم وقصورهم وزوجاتهم، انشغل الجميع بكل شيء إلا المجتمع؛ تركوه بدون رعاية ولا توجيه، تركوه بدون قدوة ولا مثل أعلى إلا السعي وراء تحصيل الملذات والشهوات، تركوه هائما على وجهه في دنيا المال التي لا تعرف نهاية ولا حدود ولا خطوط حمراء.. تركوه حتى أوشك أن يضيع.
هناك مجتمعات في طريقها للتفكك والانهيار الأخلاقي، لن ينقذها إلا ثورة ثقافية شاملة تبدأ بإصلاح التعليم إصلاحا شاملا منهجيا، وليس ترقيعا… ثورة ثقافية تعيد هيكلة الإعلام بكل صورة ووسائله… ثورة ثقافية تصلح فساد صناعة السينما وكل أصناف الدراما والفنون… ثورة ثقافية تصلح كل ما أفسد الوعي منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي… ثورة ثقافية يقودها أشخاص غير الذين نعرفهم على شاشات الفضائيات من تجار الثقافة والدين والعلم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة