الولايات المتحدة لن تقبل بأي توافقات عربية أوروبية في الملف الفلسطيني وسوف تعمل على الانفراد بإدارة الملف من منظورها السياسي
تقف الإدارة الأمريكية في موقف المراقب والمتابع لما يجري في مسارات العلاقات العربية الأوروبية الراهنة والمحتملة بعد قمة شرم الشيخ، وما انتهت إليه من نتائج عبر عنها البيان الختامي للقمة، والواقع أن العلاقات العربية الأوروبية الأمريكية تمر بمرحلة دقيقة وحساسة ترتبط بالواقع العربي الراهن والانغماس الأمريكي في التعامل الدبلوماسي والاستراتيجي، وهو ما أثر بالفعل على أنماط العلاقات العربية الأمريكية بصورة كبيرة.
وفي ظل رهانات أمريكية في الاستمرار في توجيه الفائدة لصالحها، ووفق شروط أمريكية في الأساس -وهو ما عبر عنه الرئيس الأمريكي ترامب في المطالبة بالحصول على مقابل، وهو ما تكرر أيضا مع الدول الأوروبية و مع حلف الناتو وخارجه بثمن الدفاع عنها- فإن ذلك يطرح إشكالية حقيقية في مسارات العلاقات التاريخية بين الولايات المتحدة وأوروبا التي ترغب بالاستمرار في الشراكة الأمنية والإستراتيجية مع ادارة لم تعد تعطي جل اهتمام بالعلاقات التاريخية أو الإستراتيجية.
الإدارة الأمريكية التي تخطط للاستمرار في المنطقة بصرف النظر عن الانسحاب التكتيكي من سوريا ستعمل على عدم ترك المنطقة العربية لأي طرف آخر سواء كان روسيا أو الاتحاد الأوروبي، وستعمل على تعطيل أي مسارات إيجابية في العلاقات العربية الأوروبية
ولعل هذا ما دعا الرئيس ترامب لمطالبة الاتحاد الأوروبي بضرورة استيعاب عناصر داعش الأوروبيين، خاصة وأن البديل سيكون الإفراج عنهم ووضع الأوروبيين أمام مأزق سياسي وأمني، كما لا يمكن استبعاد الخلاف الراهن والمستمر بين الأوروبيين، والأمريكيين حول التعامل مع الحالة الإيرانية.
والواضح أن التحركات الأوروبية اقتربت بالفعل من الموقف الصيني والروسي، وهو ما سيعطي لهذا الملف أولويات أوروبية لإنجاح الاتفاق النووي الإيراني نكاية في الولايات المتحدة التي تدرك أن إعادة الاتفاق معها يجب أن يبدأ من منظور جديد ووفقاً لشروط أمريكية بالأساس وأغلبها يتعلق بتغيير السلوك الإيراني.
على المستوى العربي الأمريكي سيظل التحفظ الأمريكي على مساحات التقارب الحالية بين أوروبا والدول العربية، إذ أن التحرك الأوروبي الراهن ليس فقط في العالم العربي، وإنما أيضا تجاه آسيا وأمريكا اللاتينية، وهو الذي سيوسع من نطاقات التحرك الأوروبي بالفعل ويعدد مسارات التعامل ويفتح طريقا حقيقيا للدول الأوروبية في الإقليم العربي، خاصة وأن أوروبا ترتبط بنمط تفاعلي مع أغلب دول المنطقة مما يؤكد على إمكانية ظهور اتجاهات جديدة للعلاقات العربية الأوروبية يمكن أن تفيد الجانبين، وهو ما يمكن أن يتمثل في ملء الفراغ المتوقع في سوريا من قبل الدول الأوروبية في حال الانسحاب الأمريكي المنقوص والبدء في إعادة ترتيب الحسابات والخيارات الأوروبية في الفترة المقبلة لاسيما وأن فرنسا تملك طموحا حقيقيا في العودة للمنطقة من مدخل الملفات الليبية والفلسطينية والسورية، فبعد باريس 1 للتسوية العربية الإسرائيلية، وتحرك فرنسا لمحاولة التحرك بديلا عن الوساطات الأمريكية؛ خطط الفرنسيون للبدء في بناء مرحلة جديدة من التوافقات العربية الإسرائيلية مما جعل الإدارة الأمريكية تتدخل مرة أخرى وتفشل كل التحركات الفرنسية، بل وتعمل على إسكات الصوت الفرنسي الداعي لإقامة دولتين، وتبني خيارات التسوية على أسس قانونية، وهو ما لا تريده الولايات المتحدة، وتسعي لإفشاله.
ولهذا فإن الولايات المتحدة لن تقبل بأي توافقات عربية أوروبية في الملف الفلسطيني وسوف تعمل على الانفراد بإدارة الملف من منظورها السياسي والاستراتيجي وانتظار ما تسفر عنه الانتخابات الإسرائيلية في أبريل المقبل، وهو ما سيعطي الإدارة الأمريكية المبرر لإطلاق مشروعها للتسوية، وعلى الرغم من أنها تتوقع مبدئياً رفضاً فلسطينياً وتحفظا عربيا، إلا أنها ستمضي في خيارها.. ومن المتوقع أن تتدخل الإدارة في إقرار شكل التسوية المطروحة في ليبيا، وفي ظل مخطط روسي متوقع دخوله على الخط.
والمعنى أن الإدارة الأمريكية التي تخطط للإستمرار في المنطقة بصرف النظر عن الانسحاب التكتيكي من سوريا ستعمل على عدم ترك المنطقة العربية لأي طرف آخر سواء كانت روسيا أو الاتحاد الأوروبي، وستعمل على تعطيل أي مسارات إيجابية في العلاقات العربية الأوروبية خاصة وأنها تنطلق من فرضية رئيسية بأن تحالفاتها الرئيسية قائمة وأنماط تفاعلاتها مستمرة، ولن تتراجع عنها خاصة وأنها تعمل انطلاقا من استراتيجية حقيقية للعمل والتواجد.
ومن المهم التأكيد على أن قمة شرم الشيخ العربية الأوروبية نقلت رسالة في توقيتها ودلالة انعقادها، ولكن دون مغالاة في التوقع أو التصور، وأن نمطا جديداً يتشكل في العمل والتنسيق المشترك خاصة وأن جملة التحديات المشتركة سواء قضايا الإرهاب أو الهجرة غير الشرعية أو النزوح ما تزال تعلن عن نفسها بصورة واضحة، وتحتاج إلى مواجهات مفتوحة ومستمرة وتنسيق مستمر لن يغفل فيه الدور الأمريكي البارز في المنظومة الدولية، إذ أن هذا الدور سيظل قائما ومطروحا وقويا وسيعلن عن نفسه عند الضرورة في الفترة المقبلة.
لقد نجحت الدول العربية بالمشاركة في القمة بالتأكيد على قدرتها في التحرك وتوظيف قدراتها وتنويع مصادر تحركاتها، ولكن أيضا وبنفس المنطق فإن الجانب الأوروبي لديه طموحات العمل في المنطقة العربية انطلاقا من علاقات مصلحية، وبحثا عن أمنه وسعياً للتحرك في منظومة العلاقات الدولية التي تتيح في الوقت الراهن مزيدا للفعاليات الدولية العمل من منطلقات مصلحية حقيقية، وليس مجرد العمل وفقا لثوابت العلاقات التاريخية أو السياسية خاصة مع تسارع وتيرة البحث عن المصالح الآمنة والفوائد المباشرة والمتبادلة، وهو ما تدركه الدول الكبرى في العالم.
إن ترسيم المصالح العربية الأوروبية سيحتاج إلى بعض الوقت ودورية انعقاد مثل هذه القمم ستؤكد على استمرارية المصالح السياسية والاستراتيجية طويلة الأجل والعمل على مسار استراتيجي، وليس على مسار تكتيكي أو مرحلي، وبالتالي فإن التحرك نحو بناء منظومة علاقات عربية أوروبية حقيقية سيتطلب مراجعة كاملة لأسس العلاقات والتحسب لدور الولايات المتحدة واحتمالات تدخلها في مراحل معينة وفي ملفات معلومة ما تزال مفتوحة على سيناريوهات ومسارات عدة، كما يجب أن تقيس الدول العربية مواقف الدول الأوروبية في الفترة المقبلة وهل يمكن أن تعمل بصورة منفردة، أم أنها ستكون بحاجة إلى مظلة أمريكية وفي إطار حسابات أوروبية أمريكية معتادة ومكررة، وهو ما سيضعنا في دائرة محددة من الحسابات الضيقة التي لن تحقق لنا كدول عربية مصالحنا وأهدافنا.
من الشائع في العلاقات الدولية أن الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يعمل إلا من منطلق وتوجيه أمريكي وأن مساحات الاختلاف والتجاذب تكاد تكون قليلة وفي ملفات إقليمية ودولية متفق بشأنها في كثير من الأحيان، لكن في الوقت الراهن تغير هذا الوضع وأصبحت الدول العربية والأوروبية على حد سواء تبحث عن المزيد من حرية الحركة، والاستثمار في واقع دولي تسيطر عليه حاليا الولايات المتحدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة