لا بد من خروج الطرفين الأمريكي والإيراني في ذات اللحظة كما دخلا قبل سنوات، وترك العراق للعراقيين.
لا ينكر أحد أهمية استقلال الدول شعباً وأرضاً وقراراً، بل لا يغفر أحد لدولة أو لشعب الاستكانة عن نيل الاستقلال والتمتع بالحقوق السيادية غير منقوصة، ولكن في بعض الأحيان وبسبب الظروف المعقدة والمخاطر التي يفرضها الواقع السياسي أو الميداني لدولة من الدول كما هو الحال في العراق اليوم، الذي يعاني ما يعانيه على الأصعدة كافة الإدارية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، يجعل قرار المطالبة بانسحاب القوات الأمريكية منه قراراً مدمراً؛ لأن فقه المصالح قائم على دفع الأذى الأكبر بالأذى الأصغر، فعلى الرغم من إجحاف الاحتلال الأمريكي بحقوق العراق فقد خلق توازناً سياسياً وعسكرياً في بلاد الرافدين، التي وإن توحدت حدودها الجغرافية في المصورات الطبيعية إلا أنها مشرذمة أيما تشرذم على مستوى الخريطة السياسية.
لا بد من خروج الطرفين الأمريكي والإيراني في ذات اللحظة كما دخلا قبل سنوات، وترك العراق للعراقيين يقررون مصير دولتهم من دون تدخل خارجي، ورسم مستقبل بلدهم الذي ضحوا من أجله ودفعوا دم أبنائهم لأجل ذلك
ربما يقول قائل إن هذا الأمر مجرد ترويج وتسويق للاحتلال الأمريكي لبلد عربي عريق مثل العراق العظيم، ولكن الأمر في حقيقته بعيد كل البعد عن المداهنات السياسية؛ لأنه محكوم بوقائع ماثلة أمام كل متفحص ومدقق لمجريات الأمور على الساحة العراقية، وإذا ما أمعنا النظر نجد أن هناك عدة أسباب تجعل من الوجود الأمريكي في مثل هذه المرحلة الحساسة شرا لا بد منه، ومن هذه الأسباب:
أولاً: الأوضاع الداخلية للعراق: فمنذ سقوط نظام "صدام حسين" عام 2003 لم يحظ العراق بحكومة تجمع شتاته السياسي لتكون بعيدة عن كل محاصصات طائفية أو مصالح حزبية، وتعمل على أن تكون للعراق وللعراقيين بكل طوائفهم وشرائحهم وأفكارهم السياسية، الأمر الذي جعل الصراع بين الأحزاب صراعاً سلطوياً محضاً غايته الوصول إلى سدة الحكم بأي ثمن وبأي وسيلة متاحة، ما انعكس سلباً على المواطن العراقي الذي بات آخر ما يفكر به المسؤول العراقي الذي لا يعرفه إلا قبيل الانتخابات البرلمانية، ليصدع رأسه بالخطابات الطائفية وتعليق آماله على أشخاص لا طائفة لهم سوى المنصب، ليجد العراقي نفسه في كل عام بحال أسوأ من العام الذي سبقه، فإذا ما راجعنا الحكومات العراقية التي تسلمت السلطة بدءاً بحكومة "نوري المالكي" التي بدأت بعدها تتعالى الأصوات ضد التمييز الطائفي، حد أن إقليماً كالأنبار صار يطالب بالاستقلال! وانتهاء بحكومة "عادل عبدالمهدي" التي تسلمت السلطة في أوضاع مشحونة كانت بها الحال في تدهور حتى انفجر الوضع اليوم، ليقف العراق على شفا حفرة من الصدامات الداخلية التي تنذر بحرب أهلية، وفي مثل هذا الوضع السياسي المزري والمطالب الشعبية المحقة التي ضاقت ذرعاً بالسياسات السلطوية يكون العراق في أمس الحاجة لدعم كالدعم الأمريكي اقتصادياً وسياسياً، ليستطيع قدر الإمكان احتواء ما يمكن احتواؤه أو على الأقل لينأى بنفسه عن مصير كالمصير السوري أو اليمني أو الليبي.
ثانياً: الوضع السياسي على المستوى الإقليمي والدولي: فالعراق اليوم ومنذ سقوط نظام "صدام حسين" محكوم بالنفوذ الخارجي لا بالصوت العراقي الداخلي، هناك نفوذ أمريكي قائم على المصلحة السياسية والأطماع الاقتصادية وتمدد النفوذ لاحتواء أكبر قدر ممكن من منطقة الشرق الأوسط وبتكاليف صفرية، بل ربحية تكمن في استغلال الموارد النفطية للعراق، والاعتماد على الولايات المتحدة في التسليح والتدريب والحماية، يقابله نفوذ إيراني لا يقوم على المصالح السياسية والأطماع الاقتصادية فحسب، بل إنه يتعدى ذلك لجعل "بغداد" حديقة خلفية لـ"طهران"، ويؤدي إلى طمس الهوية العراقية العربية، وربطه شعباً وساسة بالولاء المطلق لإيران التي لا ترى في العراق إلا ساحة بديلة لخوض حروبها مع جميع من يعارض مشروعها الضارب لاستقرار المنطقة! وذلك بتحويل العراق بذريعة محاربة (الإرهاب) إلى بلد تحكمه مليشيات تعمل "طهران"على تقويتها شيئاً فشيئاً حتى تفوق قوتها عدة وعديداً قوة الدولة العراقية، وليرتهن الأمر العراقي بيدها مؤتمرا بأمر "المرشد"، وما "الحشد الشعبي" إلا المثال الأبرز لهذه المليشيات التي لا تمت للعراق والعراقيين بصلة غير الاسم، الذي لا يعدو عن كونه غربالاً تحجب به شمس حقيقتها الإيرانية.
ولعل ما حصل في الأمس من استهداف إيران القواعد الأمريكية في العراق بصواريخ باليستية رداً على مقتل "قاسم سليماني" -الذي نفذته "واشنطن" على الأرض العراقية- إلا صورة من الصور المظلمة لمستقبل العراق، مما يجعل غياب الأمريكي عن الساحة العراقية في هذه اللحظة خطأ فادحاً يجعل الإيراني يسرح ويمرح على الساحات السياسية والعسكرية كما شاء، فيزيد المعاناة معاناة على العراق والعراقيين، بل إنه لا غلو إن قلنا سيكون بوابة لعودة الإرهاب إلى بلاد الرافدين، التي لم تمسح غبار الإرهاب عنها بعد، بل إنه قد يأتي بصورة أخرى أشد ضراوة متمثلة بصورة الحرس الثوري الإيراني ومليشياته التي باتت اليوم تنافس القوات المسلحة، بل حتى الأحزاب السياسية العراقية للتفرد بالسلطة المطلقة، وفقدان هذا التوازن سيجعل العراق ريشة في مهب الريح.
خلاصة القول إن كل الدول تمر بمراحل من الضعف والظروف القاهرة التي تجبرها على التحالف مع من يطمع بها، ولكن هذه المعادلة القسرية تحكمها قاعدة درء المفسدة وجلب المصلحة، أو على الأقل درء المفسدة الكبرى بتحمل المفسدة الصغرى، ووفق هذه المعادلة السياسية نجد أن المفسدة الكبرى تكمن في انفجار الوضع العراقي وترك العراق بلا قوة دولية تحافظ نوعاً ما على تماسك الدولة إدارياً، كما أنه ووفق المعطيات ذاتها فإن المفسدة الحاصلة من الوجود الأمريكي تعد مصلحة إذا ما قورنت بمفسدة فتح العراق على مصراعيه لإيران، التي ترى في ذلك حرب وجود لا مجرد مصالح سياسية وأطماع اقتصادية، وعليه لا بد من خروج الطرفين الأمريكي والإيراني في ذات اللحظة كما دخلا قبل سنوات، وترك العراق للعراقيين يقررون مصير دولتهم من دون تدخل خارجي، ورسم مستقبل بلدهم الذي ضحوا من أجله ودفعوا دم أبنائهم لأجل ذلك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة