الأزمات والحروب في الإقليم أخذت أشكالا متعددة من الحروب التقليدية إلى حروب العصابات إلى الإرهاب، ولم تتوقف المنطقة أبدا عن سباق التسلح
لم يكن الشرق الأوسط خاليا من الأزمات في أي زمن من تاريخه المعاصر، فقد تواترت عليه أزمات التدخل الأجنبي، وجرت فيه حروب إقليمية، ولم يسلم أبدا من أزمات داخل دوله عبرت عنها حروب أهلية ربما كانت هي الأكثر عنفا وقسوة كما كان الحال في الحرب الأهلية السودانية التي تعددت فصولها، والحرب الأهلية اللبنانية التي تواترت مرتين، والحرب الأهلية اليمنية التي كان حالها كذلك، والحرب الأهلية السورية التي قاربت على عقد من السنوات.
وبدأت خطوات الأزمة عندما وقّعت أنقرة مع حكومة السراج في غرب ليبيا الاتفاق البحري والأمني الذي يتضمن احتمالات نشر قوات عسكرية لها قدرات عملياتية تساعد على وقف وهزيمة قوات الجيش الوطني الليبي، مما يفتح الأبواب لوجود تهديد مباشر لمصر، سواء بالتورط في مساعدة الجيش الوطني الليبي أو تهديد الحدود المصرية مباشرة بقوات تركية أو استخدام تنظيمات إرهابية متعددة.
الأزمات والحروب في الإقليم أخذت أشكالا متعددة من الحروب التقليدية إلى حروب العصابات إلى الإرهاب، ولم تتوقف المنطقة أبدا عن سباق التسلح الذي وصل إلى الحافة النووية في حالات، ووصلت دولة واحدة إلى هذا السلاح: إسرائيل! ولكن رغم هذا التاريخ، وربما بسببه، فإن الفترة القصيرة الماضية شهدت حالة كبيرة من القلق في الإقليم نتيجة نشوب أزمتين متزامنتين، وكلتاهما كانت منذرة بإمكانيات نشوب حرب كبيرة تضيف إلى الشرق الأوسط الكثير من آلام الضحايا والجرحى والمدن المدمرة.
الأزمة الأولى كانت تركيا، هي التي أطلقت أول أعيرتها السياسية والعسكرية، وكان الهدف منها وضع قدم عسكرية في بلد عربي إضافي هو ليبيا، والنفاذ إلى إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط الذي بات غنيا بالغاز والنفط الذي تريد أنقرة نصيبا منه، والحقيقة هي أن تركيا تمثل عنصرا من أهم عناصر عدم الاستقرار في المنطقة، فهي دولة يقودها تنظيم وفكر الإخوان المسلمين المعادي، وشخصية قيادية -رجب طيب أردوغان- تظن أنها على موعد مع القدر لاستعادة ماضي الخلافة العثمانية الذي ولّى وراح.
مصر في هذه المعادلة بين تركيا والمنطقة هدف رئيسي؛ لأنها من ناحية كانت مَنْ أوقف مد الإسلام الراديكالي في ثورة يونيو ٢٠١٣ التي أطاحت بحكم الإخوان، كما أنها الدولة التي تستعصي على التبعية لتركيا والتي نجحت دبلوماسيا وسياسيا في خلق منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط القائم على قانون البحار الذي لم توقع عليه تركيا.
وبدأت خطوات الأزمة عندما وقعت أنقرة مع حكومة السراج في غرب ليبيا الاتفاق البحري والأمني الذي يتضمن احتمالات نشر قوات عسكرية لها قدرات عملياتية تساعد على وقف وهزيمة قوات الجيش الوطني الليبي، مما يفتح الأبواب لوجود تهديد مباشر لمصر، سواء بالتورط في مساعدة الجيش الوطني الليبي أو تهديد الحدود المصرية مباشرة بقوات تركية أو استخدام تنظيمات إرهابية متعددة. وبلغت الأزمة ذروتها عندما قام البرلمان التركي بالتصديق على الاتفاق مع طرابلس، وأعلنت الرئاسة التركية عن نيتها لإرسال "الجيش التركي" إلى ليبيا.
والحقيقة هي أن تركيا كانت دوما على استعداد لاستخدام القوة العسكرية، وقد استخدمتها بالفعل في العراق وسوريا سواء باستخدام ضربات عسكرية أو الاحتلال المباشر لمنطقة الشمال الشرقي لسوريا.
والأزمة الثانية كانت إيرانية الطابَع، وهي قديمة قدم حدوث الثورة "الإسلامية" الإيرانية في عام ١٩٧٩؛ ولكن صورتها الحديثة بدأت مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية عليها.
ولم تكن "العقوبات الاقتصادية" في العادة أداة حاسمة في العلاقات الدولية، فكثيرا ما كانت الدول تعرف كيف تلتف حولها، ولكن السيطرة الأمريكية على حركة المال عبر البنوك العالمية من خلال آلية "سويفت Swift"، والمعلومات حول التفاعلات الاقتصادية من خلال "الخوادم Servers" جعلتاها قادرة بشكل حاسم على اتباع استراتيجية للحد الأقصى للضغط الاقتصادي Maximum Pressure على إيران دون قدرة هذه الأخيرة على الالتفاف حولها من خلال أطراف ثالثة.
الضغط الأمريكي مع فشل الأطراف الثالثة بما فيها تلك التي وقعت على الاتفاق النووي مثل الصين وروسيا وفرنسا في تقديم عون دبلوماسي أو اقتصادي دفع إيران لتهديد الملاحة في الخليج من ناحية، وتهديد حلفاء أمريكا مثل السعودية والإمارات بالضربات العسكرية المباشرة أو باستخدام حلفائها من الحوثيين في اليمن، وهؤلاء حصلوا على عون كبير؛ تدريبا وتسليحا، من قبل حزب الله اللبناني.
آخر الضربات وأكثرها قسوة كانت هي التي جرت في مايو الماضي، بعد إصابة المخزون النفطي لشركة أرامكو، رد الولايات المتحدة على ذلك كان مزيدا من الانتشار العسكري البحري في منطقة الخليج، وتسليح الدول الحليفة بأسلحة متقدمة، وتكثيف الوجود الأمريكي في قواعدها في العراق والكويت وقطر، واستخدام إسرائيل لضرب حلفاء إيران في العراق وسوريا ولبنان.
الفصل الأخير من الأزمة بدأ بضربات إيرانية موجهة لأشخاص أمريكيين مدنيين وعسكريين، وبادلتها أمريكا بضربات موجعة لقوات الحشد الشعبي ممثلة في كتائب حزب الله، فكان الرد الإيراني بدفع قوات الحشد الشعبي لحصار السفارة الأمريكية في بغداد والضغط عليها بإشعال النيران في أسوارها الخارجية، وكان الرد الأمريكي الأخير باغتيال سليماني ورفيقه "المهندس" باستخدام طائرة مسيرة.
كلتا الأزمتين وصلت إلى آفاق بالغة الحدّة عندما جرى تشييع جنازة قاسم سليماني في إيران والتي شهدها مئات الألوف من البشر، وبدا أن ضغوطا هائلة سوف تدفع النظام الإيراني في اتجاه أعمال انتقامية واسعة النطاق تشمل الأمريكيين العسكريين والمدنيين العاملين في المنطقة، وكذلك حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وحتى الداخل الأمريكي ذاته لم يسلم من توقع وقوع أعمال إرهابية.
رد الفعل الأمريكي كان متوقعا من تصريحات الرئيس دونالد ترامب أن هناك ٥٢ هدفا إيرانيا سوف تضرب إذا ما تم المساس بالأمريكيين؛ ولكي يكون للتهديد مصداقية فإن سربا من قاذفات بى- ٥٢ تم نقلها من قاعدة باركسديل في ولاية أريزونا الأمريكية إلى قاعدة دييجو جارسيا في المحيط الهندي بالقرب من إيران. وفي الوقت نفسه أعلنت واشنطن عن عزمها نقل ٥٠٠٠ جندي أمريكي إضافي إلى الإقليم، وجرى إرسال ٣٠٠٠ منهم بالفعل و٢٠٠ من القوات الخاصة، بحيث بلغ إجمالي القوات الأمريكية في الشرق الأوسط ٨٠ ألفا، وفي الوقت نفسه أعلن الرئيس التركي بعد زيارة مفاجئة إلى تونس أنه بصدد عمل ائتلاف تركي تونسي جزائري للتعامل مع الأزمة الليبية، وأعلن توجه القوات التركية إلى ليبيا.
بات السيناريو الأقرب إلى الوقوع بالنسبة للأزمتين هو حدوث سلسلة من الأفعال والأفعال المضادة بين واشنطن وطهران تنتهي بالحرب الشاملة، وحرب أخرى بين مصر وتركيا مضافا لهما الأنصار في ليبيا في مزيج من الحرب الأهلية والإقليمية في آن واحد.
ما حدث فعليا هو أن الاقتراب الشديد من الحرب، وهو واحد من أهم خصائص الأزمات الدولية، قد جعل الأطراف جميعا تجفل خوفا من نتائج المواجهة العسكرية المخيفة على جبهاتها الداخلية والخارجية، ولعبت الوساطات الدبلوماسية دورا مهما في تقديم رسائل تطمئن، ودعوة أن تكون ردود الأفعال "متناسبة" في حالة الأزمة الإيرانية مع الأفعال، وداعية إلى تسوية شاملة في الأزمة الليبية.
وفي هذه الأخيرة لعبت روسيا دورا مهما، جعل ما سمته تركيا "قوات" لا يزيد عن مجموعة تخطيط وتنسيق وتدريب، وأصبحت تركيا مستعدة للاستجابة للطلب الروسي لوقف إطلاق النار بين قوات الجيش الوطني الليبي التي تقوم بحصار طرابلس ومصراتة بعد دخولها إلى سرت، وقوات الجماعات الراديكالية والإرهابية الموالية لحكومة السراج.
نهاية هذه الأزمات ما زالت في بدايتها، واحتمالات النكسة مرة أخرى إلى حالة الأزمة ليس مستبعدا، ولكن الفائدة الآن أن هناك وقتا لالتقاط الأنفاس.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة