لطالما نظر الأمريكيون إلى قوّاتهم المسلحة نظرة التقدير الكامل والاحترام المطلق.
فقد كانت ولا تزال الدرع الواقية للأمريكيّين، والتي تصدّ وتردّ عنهم غوائل الزمن وطموحات القوى العالميّة المناوئة.
كان التجلّي الأكبر للقوات المسلحة الأمريكية في منتصف أربعينيّات القرن الماضي، وذلك حين قادت دول الحلفاء للانتصار على دول المحور في الحرب العالمية الثانية، كما أنها وقفت سدًّا حائلاً دون أحلام التمدّد الشيوعي حول العالم في زمن الحرب الباردة، تلك التي امتدّت لنحو أربعة عقود.
ولعلّ العقود الثلاثة المنصرمة بنوع خاصٍّ قد شهدت أدوارًا مكثّفة للقوّات المسلحة الأمريكية، وذلك من خلال حروب علنيّة وأخرى خفيّة، كان الوازع المشترك فيها محاربة الإرهاب العالمي والثأر لما جرى نهار الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001 في نيويورك وواشنطن.
على أن استطلاعًا أخيرًا للرأي أجراه معهد "ريجان للبحوث" في الداخل الأمريكي أظهر معلومات مثيرة بشأن ثقة الأمريكيّين في جيوشهم، فقد انخفضت تلك الثقة من 70% إلى 45% في السنوات الثلاث الماضية.
الاستطلاع المشار إليه شارك فيه نحو ما يقرب من 2500 شخص، وتمّ إجراؤه في الفترة بين 25 أكتوبر و7 نوفمبر، ويأتي وسط لغط كبير يدور حول القوات المسلحة الأمريكية، وملفات مفتوحة على مصراعيها في مقدمها إشكالية الرتب الهيراركية وتقادم الرتب، وقضية التطعيم، وما إذا كان على المجندين الحصول على اللقاحات بشكل إجباريّ، عطفًا على الملف الأكبر والأخطر الخاصّ بالانسحاب الأمريكيّ المرتبك من أفغانستان.
ما الذي جرى وغَيَّرَ النظرة الأمريكيّة للمؤسّسة العسكريّة على هذا النحو المعتلّ والمختلّ؟
يبدو أن الشرخ الحادث في جدار المجتمع الحزبي والسياسي الأمريكي قد انسحب على الرؤية الواسعة الأعم والأشمل للقوات المسلحة الأمريكيّة، وبات الحكم على الجيش والثقة فيه تنطلق من معيار حزبيّ، لا معيار قوميّ، وهي الرؤية الحديثة للأمريكيّين تجاه الشعب، والتي كانت تتصف سابقًا بالحب والقرب من الجنود.
من بين الأشخاص الذين أشاروا إلى أن لديهم درجة منخفضة من الثقة في الجيش الأمريكي، قال 13% إنّ القيادة السياسيّة هي السبب، و9% رجعوا الأمر لفضائح الاعتداء الجنسي أو الكذب والتستّر، فيما ذهب 8% إلى أنهم شعروا بأن الجيش كان باهظ التكلفة وأن أولويّاته خاطئة.
هل جاءت تلك النتائج كأثر مدمّر للاستقطاب السياسيّ في الجسد السياسي الأمريكيّ؟
في غالب الأمر إنّ ذلك كذلك، لا سيّما بين صفوف الجمهوريّين، الذين بدوا أكثر عدم ثقة في الجيش الأمريكي من نظرائهم من الديمقراطيّين.
هل من رابط بين عدم الثقة هذه وبين إشكاليّة المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، ذاك الذي حذر منه الرئيس الأمريكيّ الأشهر دوايت أيزنهاور في خطاب الوداع عام 1961؟
قصة أيزنهاور تتمثل في أن الرجل العسكري أصلاً، والذي قاد جيوش الحلفاء إلى النصر على هتلر واليابان وإيطاليا، قد استشرف من بعيد مآلات الحياة السياسية في الداخل الأمريكي حال مضى نفوذ "الثلاثي المرعب" في الداخل الأمريكيّ وتصاعد قدرته.
الثلاثي المشار إليه يتكون من أصحاب شركات الأسلحة، أولئك الذين تشغلهم بالدرجة الأولى قضية دوران عجلة مصانعهم، ما يعني ضرورة تصريف منتجاتهم، وهذا لن يتحقّق إلّا من خلال الإبقاء على الحروب دائرةً شرقًا وغربًا، فيما الضلع الثاني من المثلث عينه يتمثّل في جنرالات وزارة الدفاع الأمريكية، الذين يقودون المعارك على الأرض بكلّ ما قُدِّرَ لهم من قوة، مع الاهتمام بفتح جبهات صراع جديدة. أمّا الطرف الثالث فهو رجالات الكونجرس من نواب وشيوخ، الذين يشرّعون الحروب والمغامرات العسكرية للطرفين الآخرين.
شيءٌ ما عكَّرَ صفو العلاقة بين الجيش الأمريكيّ ونظرة الأمريكيّين، ارتبط على نحو خاصّ بغزو أفغانستان، فبعد نحو عقدَيْن من العمليّات العسكريّة، خرجت البيانات والتقارير لتفيد بأنّ جنرالات الحرب هم الذين حقّقوا أكبر قدر ممكن من الاستفادة من ذلك المستنقع على حساب دافع الضرائب الأمريكيّ.
كان من الواضح جدًّا أنّ الجنرالات قد عَمَّقوا علاقاتهم أكثر من صناع أسلحة الموت، ما يفيد بأنّ أفغانستان كانت ميدان رماية وضرب نار، ومن جهة ثانية فإن ثروات الجنرلات، التي كشفت عنها الحسابات الختاميّة، أكّدت أنّ هؤلاء كان شغلهم الشاغل هو المصلحة الشخصيّة.
وأكثر من ذلك، فإنّ غالبيّة أصحاب الرتب العسكرية العالية عادوا لاحقًا لكي يشغلوا مناصب عليا في شركات الأسلحة، ما يعني أنّ شيئًا ما غير واضح كان يجري من خلف ظهر الشفافية والعمليّة الديمقراطيّة الأمريكيّة.
عطفًا على ذلك، فإنّ هناك حالة من تداخل الخيوط جرت بين ما هو سياسي وما هو عسكري في الداخل الأمريكي قادت حكمًا إلى النتيجة المتقدّمة الخاصة بفقدان الثقة.
في العام الماضي على سبيل المثال، أصبح الجيش وكبار قادته متورطين في البيئة السياسية السامّة التي تتخلّل جميع مستويات المجتمع الأمريكيّ، فقد تعرض الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، لانتقادات شديدة من اليسار واليمين السياسيّ لأكثر من سبب، والبداية من عند الإخفاق في الردّ على أعمال الشغب، التي اندلعت في السادس من يناير/كانون الثاني من حول مبنى الكونجرس.
أمّا الأمر الأكثر إزعاجًا للأمريكيّين، والذي يتهدّد الحياة الديمقراطية الأمريكية ويفتح الحديث على أبواب الانقلاب العسكريّ في الداخل، وإنْ كان مجازيًّا، فهو تواصُل الجنرال "ميللي" مع نظيره الصينيّ من وراء ظهر الرئيس "ترامب"، والذي هو بحكم الدستور القائد الأعلى للقوات المسلحة الأمريكية، الأمر الذي يرقى إلى مستوى جريمة الخيانة العسكريّة، والتي يتوجّب أن يحاكَم ميللي عليها.
تقطع ريسا بروكس، أستاذة العلوم السياسيّة بجامعة ماركيت في ويسكنسن، أنّه نظرًا لمدى الاستقطاب الذي تشهده البلاد في الوقت الحاليّ، فليس من المستغرب أن تتعرّض سمعة الجيش لضربة، تمامًا مثل جميع المؤسّسات الحكوميّة الأخرى بشكل عامّ، على الرغم من أنّ أداء الجيش يبدو جيّدًا مقارنةً بالمؤسَّسات الحكوميّة الأخرى، على حدّ قولها.
على أنّ هناك مشهدًا إضافيًّا أكثر إزعاجًا تجري به المقادير داخل الجيش الأمريكيّ، جاءت الإشارة إليه عبر صحيفة "نيويورك بوست" في الأول من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والتي قالت في تقرير لها إنّ أعداد حالات الانتحار في الجيش الأمريكي قفزت بنسبة 15% العام الماضي، حيث شهدت زيادة كبيرة بين جنود القوات البريّة ومشاة البحرية، فيما وصف كبار قادة الجيش هذه الزيادة بـ"المقلقة"، داعين لبذل مزيد من الجهود لوقفها.
التساؤل المهمّ قبل الانصراف: "هل يمكن لحالة عدم الثقة من قبل الأمريكيّين في جيش بلادهم أن تؤثّر على تماسك الدولة -الإمبراطوريّة- عمّا قريب؟
تبقى كلّ الاحتمالات واردةً، وهو أمر خطير في كل الأحوال على مستقبل البلاد والعباد ولحين إشعار آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة