تحت سقف العاصمة العُمانية مسقط، وفي مناخ مُتخم بالشكوك والهواجس، انعقدت الجولة الأولى من مفاوضات يمكن وصفها بـ "اختبار نوايا" بين واشنطن وطهران.
الاختبار لم يكن سهلاً، فهناك قطاران ينطلقان من نقطتين متعاكستين، وكل منهما يمضي وفق منطق صفري لا يسمح بكثير من المرونة، لكنّ التقاء المسارين في نقطة تفاهم يبدو هذه المرة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، ولو من باب تجنب التصعيد العسكري المباشر.
تكمن الإشكالية الكبرى في هذه المفاوضات في مسارين أساسيين: الأول من الطرف الإيراني، فهل تمتلك الدولة الإيرانية الإرادة والقدرة على الانفصال عن منهج "تصدير الثورة"، والاندماج في نظام دولي كدولة طبيعية تسعى للنفوذ والتأثير، ولكن ضمن أٌطر الدولة الوطنية لا الدولة الأممية؟، هذا التحول يتطلب من طهران أن تعيد إنتاج خطابها السياسي والديني، وتفكك منظومتها العقائدية التي قامت منذ 1979 على فكرة الثورة الإسلامية العابرة للحدود.
وهنا مربط الفرس: هذا التحول سيعني بالضرورة خوض صراع داخلي مفتوح مع المنظومة العقائدية للحرس الثوري، ومع الأنساق الاجتماعية التي تربّت على ثقافة العداء لـ"الشيطان الأكبر"، ما قد يخلق موجات صدام داخلي تتراوح بين الاحتجاجات الواسعة إلى احتمالات الانقسام وحتى الحرب الأهلية. أي أنّ التحول نحو دولة طبيعية ليس قراراً خارجياً فحسب، بل هو معركة داخلية كبرى.
في المسار الثاني، الأمريكي، يتبادر سؤال موازٍ: هل وصلت الولايات المتحدة إلى مرحلة استنفاد الغرض من النظام الإيراني؟ وهل بات وجود الجمهورية الإسلامية عبئاً أمنياً واستراتيجياً أكثر منه ورقة تفاوض؟
إذا ما عدنا للذاكرة السياسية نجد أن واشنطن لم تمانع في لحظة ما دعم الثورة الإيرانية على الشاه، طالما أن ذلك يخدم مصالحها الإقليمية في إضعاف النظم التقليدية، واليوم قد تكون تفكر بالسيناريو نفسه، ولكن مع أذرع محلّية مثل الحوثيين في اليمن، الذين قد يتحولون إلى نسخة إيرانية جديدة قادرة على استنزاف المنطقة لعقود قادمة، والإبقاء على سوق السلاح مفتوحاً، وضمان بقاء منطقة الخليج والجزيرة العربية تحت الضغط.
هنا، تبرز الإشكالية الأهم: غياب الطرف الخليجي عن مفاوضات مصيرية كهذه. هذا الغياب يعيد تكرار خطأ اتفاق 2015، حين تم توقيع الاتفاق النووي مع إيران دون إشراك الدول الخليجية التي هي أول المتأثرين بأي اتفاق مع طهران، بحكم الجغرافيا، والمصالح الأمنية، والتهديد النووي، إضافة إلى عدم تضمين الاتفاق القديم لملفي الصواريخ الباليستية والميليشيات العابرة للحدود، وهما ملفان أشد خطورة من التخصيب النووي نفسه.
هذا الضعف العربي في التأثير على شكل المفاوضات واتجاهها يجب أن يُواجَه بمقاربة استراتيجية مختلفة. فبعد هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، الذي أدّى إلى حرب شاملة في غزة، ساهمت إسرائيل -بقصد أو من غير قصد- في تقطيع أذرع إيران في المنطقة: من غزة إلى جنوب لبنان، ومن سوريا إلى العراق وحتى شمال اليمن. وهذا التحول يجب أن يُقرأ بذكاء عربي.
لقد آن الأوان لأن تكون للمنطقة كلمة في صياغة التوازنات الجديدة، ليس فقط بالمشاركة، بل بإعادة صياغة مفهوم الأمن الجماعي وفق رؤية واقعية تقوم على المصالح لا الشعارات، وهنا تبرز فكرة الاتفاقيات الإبراهيمية كمنصة واقعية للتحرك، هذه الاتفاقيات، التي انضمت لها دول عربية مهمة، يمكن أن تشكّل إطاراً جديداً ليس فقط للتطبيع مع إسرائيل، بل لصياغة مشروع إقليمي أكثر شمولاً، يضم دول الشام سوريا ولبنان ودول الخليج العربي مع إسرائيل، وحتى إيران تحت مظلة تفاهمات استراتيجية، تُبنى على قاعدة الضغط المتبادل والتوازن.
نعم، إيران يمكن أن تكون جزءاً من هذه المنظومة، لا عبر الانصهار، ولكن عبر التحول من العداء إلى التنافس السياسي المشروع. وقد تكون مفاوضات مسقط، تحت ضغط عسكري إسرائيلي، وتحت أعين الروس والصينيين، فرصة تاريخية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط.
إن الحديث عن سلام مستدام في المنطقة يجب ألا يغفل عن أن إيران، منذ نشأتها الثورية، لم تكن دولة طبيعية. لكنها، اليوم، تواجه استحقاقاً داخلياً واقتصادياً وعسكرياً يجعل من الاستمرار في مشروع الثورة ترفاً لم يعد يحتمله الواقع. في المقابل، على الخليج أن يخرج من دور المتفرج، ويبدأ ببناء موقف موحد يطرح على طاولة التفاوض، ويُترجم بمبادرات وليس فقط بالبيانات.
ما لم يكن مطروحاً في اتفاق 2015 يجب أن يكون أساساً لاتفاق 2025: برنامج الصواريخ، والمليشيات، والأمن البحري، والتوازن الإقليمي. أما التراخي العربي، فسيُنتج واقعاً جديداً قد لا يكون لصالح أحد.
في السياسة، ليست التهديدات وحدها ما يُحدث التغيير، بل فهم اللحظة واستيعابها، وامتلاك الجرأة للعب الأدوار التي لم تكن متاحة سابقاً، هذه فرصة متاحة لأن تكون دول المنطقة العربية جزءاً من الحل، لا فقط جزءاً من الجغرافيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة