زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد للهند ضيف شرف بمناسبة عيدها الوطني عبرت عن حس استراتيجي ثاقب من حيث رمزيتها ونتائجها، ومن المؤمل أن تؤسس لعلاقات خليجية وعربية جديدة بهذا البلد المحوري في النظام الدولي الذي يحتاج إلى اهتمام خاص في الفترة الراهنة.
زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد للهند ضيف شرف بمناسبة عيدها الوطني عبرت عن حس استراتيجي ثاقب من حيث رمزيتها ونتائجها، ومن المؤمل أن تؤسس لعلاقات خليجية وعربية جديدة بهذا البلد المحوري في النظام الدولي الذي يحتاج إلى اهتمام خاص في الفترة الراهنة.
ولا نحتاج إلى أن نبين طبيعة وحجم التداخل الكثيف بين الهند والعالم العربي ماضياً وحاضراً، وإنما حسبنا الإشارة إلى ثلاث خلفيات بارزة: العمق الإسلامي القوي للدولة المنغولية التي سيطرت على الهند إلى حدود الاستعمار البريطاني، ودور الشركة البريطانية الهندية ومكتب الهند البريطاني في تاريخ المنطقة الحديث، والدور الهندي العربي المشترك في بلورة منظومة عدم الانحياز خلال حقبة الحرب الباردة.
ليس من همنا الرجوع إلى هذه المعطيات التاريخية، وإنما حسبنا الوقوف عند محددات الشراكة العربية- الهندية المنشودة في ظل الأوضاع الدولية الراهنة التي تتسم بسمتين بارزتين هما: تبدل موازين النظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، وتراجع الاهتمام بالمنطقة العربية في الأجندة العالمية.
ومن هذا المنظور، تتعين المراجعة الجذرية للسياسات الاستراتيجية التقليدية التي بنيت على احتكار الغرب (أوروبا والولايات المتحدة) عناصر القوة الجيوسياسية في العالم وما ينتج عن هذا التصور من بناء التوجهات الديبلوماسية على الشراكة الخاصة بهذا المحور المهيمن. فمن الجلي أن الرهان الجيوسياسي المستقبلي سيتمحور حول ثلاث قوى دولية هي بالإضافة إلى الولايات المتحدة الصين والهند، في حين ستظل روسيا باعتبار موقعها الجغرافي قوة إقليمية فاعلة داخل مجالها الحيوي دون أن تتمكن من منافسة القوتين الآسيويين الصاعدتين.
فالهند بمساحتها الجغرافية الواسعة (3 ملايين كم2)، وعدد سكانها الذين يتجاوزون ملياراً وثلاثمائة مليون نسمة، واقتصادها القوي المرشح في حدود 2020 لأن بكون الاقتصاد العالمي الثالث بعد الولايات المتحدة والصين، هي أقرب المحاور الدولية إلى منطقتنا وأكثرها تداخلًا معها من حيث المصالح والفوائد.
وعلى عكس ما كان يدعو إليه الفيلسوف «محمد إقبال» في ثلاثينيات القرن الماضي من الحفاظ على وحدة الهند لتكون قطب منظومة إسلامية- آسيوية مزدهرة تجمع بين ديانات وقوميات شبه القارة، شجعت الزعامات المسلمة الهندية التقسيم واستقلال باكستان وبانغلادش. وكان مشروع «نهرو»، بعد ذلك، بناء دولة قومية متعددة الديانات على الأسس الأربعة المعروفة: الديمقراطية التعددية، والعلمانية، والاشتراكية، وعدم الانحياز.
وإذا كانت الديمقراطية الهندية حافظت على حيويتها، إلا أنها لم تنجح في بناء مجتمع سياسي متساوٍ تحكمه الثقافة الليبرالية، فلا تزال تركيبة المجتمع الفئوية عاملاً معيقاً لاستكمال البناء الوطني، في وقت صعدت فيه النزعات القومية الهندوسية التي ينحدر منها نظام حكم رئيس الوزراء الحالي «ناريندرا مودي». وحزب «بهاراتيا جاناتا» المهيمن حالياً على الحياة السياسية يتمحور برنامجه السياسي على محددين أساسيين هما: النزعة الهندوسية التي تماهي بين القومية الهندية والانتماء الهندوسي في مقابل بقية مكونات الأمة الهندية (المسلمون والمسيحيون...)، والاقتصاد الرأسمالي الحر الذي أثبت حيويته العالية بعد إصلاحات التسعينيات التي أنهت تجربة الحماية الاشتراكية.
وقد أظهر رئيس الحكومة الجديد، من خلال بعض الخطوات العملية، أنه يدرك أن الطموح الاقتصادي والاستراتيجي الهندي يحتاج إلى تسوية الملفات الداخلية المعيقة بالرجوع إلى نسخة معدلة من النزعة التحديثية العلمانية التي تأسست عليها الدولة الهندية المعاصرة، وإلى توثيق صلات بلاده بالمحيط الآسيوي المسلم في دوائره الثلاث: المحور الباكستاني- الأفغاني، وآسيا الوسطى، والخليج العربي. وعلى رغم أن الهند لها حدود مشتركة مع مختلف بلدان جنوب آسيا السبعة، إلا أنها تواجه في مجالها الحيوي التهديد الصيني الذي هو الخطر الاستراتيجي الأهم الذي تحسب له حسابه.
وعلى عكس الصين التي لم تخترقها في العمق الثقافة الغربية، ولذا استطاعت تطوير نموذجها الاجتماعي التنموي وفق محددات ذاتية متجذرة في تراثها، فإن الهند شكلت طيلة قرنين حقلًا لاستنبات النموذج التحديثي الأوروبي منذ الاحتلال البريطاني الذي أراد بناء بريطانيا شرقية متجانسة مع الأصل. وفي هذا الباب، نشير إلى مقالة شهيرة لكارل ماركس (1853) دعا فيها إلى تدمير النسيج الاجتماعي التقليدي في الهند وبناء مجتمع غربي في آسيا من خلال الأدوات التقنية الجديدة التي من شأنها تغيير الهياكل الاقتصادية والاجتماعية العميقة.
وما تكشف عنه السجالات الفكرية الحيوية في الثقافة الهندية المعاصرة هو الاتجاه المتنامي إلى بناء مفهوم ذاتي للهوية والحداثة والأمة خارج السردية الأوروبية، مما تعبر عنه فكرياً اتجاهات الدراسات «السفلية»subaltern Studies في الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وتعبر عنه سياسياً وأيديولوجياً النزعات القومية الجديدة التي تتفاوت في راديكاليتها وانفتاحها.
وما نخلص إليه هو أن التجربة الهندية في محدداتها الفكرية والسياسية والمجتمعية تحتاج إلى اهتمام عربي خاص بالنظر لحجم الدروس التي يمكن استفادتها من مسار نتداخل معه في أبعاد كثيرة، بقدر ما أن المعطيات الاستراتيجية الدولية تستوجب منا الحوار المفتوح مع الهند وترسيخ أسس الشراكة الفاعلة معها.
نقلًا عن صحيفة الاتحاد
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة