في ٢١ ديسمبر الماضي كتبت "نسرين مالك" مقالا في صحيفة الجارديان البريطانية بعنوان "لم يكن الربيع العربي عبثا.
المرة القادمة ستكون مختلفة". المقال كان جزءا من إرهاصات التذكر لما جرى قبل عشر سنوات من ثورات قامت أساسا على مناسبة ساخنة يعقبها انفجار كبير لحركة مئات الألوف أو حتى الملايين من البشر، وبعد ذلك تداعت أحداث غيرت من تاريخ المنطقة العربية خلال السنوات العشر الماضية.
الحالة التي حلت سُميت غربيا باسم "الربيع العربي"، وقامت سياسيا واستراتيجيا على أساس مفهومين: أولهما أن التناقضات والصراعات داخل الدولة أشد وأكثر دموية من أي صراعات إقليمية أخرى، انتشرت الحرب الأهلية في أكثر من دولة، سوريا والعراق واليمن وليبيا أمثلة معروفة، وفي بلدان أخرى كانت التوترات حادة استلزمت إما تدخلا خارجيا وإما تولت القوات المسلحة إدارة السياسة كما حدث في مصر، في كل الأحوال كانت المشاهد للعنف والتفاعلات الحادة داخل الدولة ذات طبيعة سياسية واقتصادية وطائفية ومذهبية، وما جاء من خارجها كان اعتمادا على أطراف داخلية قادرة على التعبئة والحشد والمواجهة.
وثانيهما أن الدولة، ربما نتيجة ما سبق، تقلصت فاعليتها كفاعل أساسي في العلاقات الإقليمية، وظهر إلى جانبها فاعلون ليسوا بدول مثل جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، وتوابعها من "القاعدة" حتى "داعش"، السمة الأساسية لهذه "الفواعل" أنها كانت تعمل عبر الدول، ولها تصوراتها الخاصة لفكرة الدولة، حتى إن واحدة منها -داعش- أقامت "دولة" عبر الحدود العراقية السورية متحدية في ذلك الجغرافيا السياسية التي استقرت في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، كل ذلك خلق عقدا من السنين "٢٠١٠-٢٠٢٠" غير رحيم بالمنطقة كلها، من حيث الضحايا والخسائر المادية والمعنوية التي جاءت من أشكال الصراعات والنزاعات الدموية، والتي لا يزال بعضها باقيا معنا في سوريا واليمن.
المقال المشار إليه أعلاه فيه بعض من الفرحة لما حدث من نوبة تغيير كبيرة، ولكنه من ناحية أخرى اعترف بفشلها الكارثي، ومن ناحية ثالثة بات فيه يقين أن ما جرى لم يكن عبثا وسوف يأتي مرة أخرى كطائر العنقاء لكي يقيم العدل ويستقيم الميزان.
الحقيقة هكذا فيها الكثير من البساطة التي تجاهلت كثيرا من التعقيد الذي جاء ليس فقط من الدور الذي لعبته الحركات "الإسلاموية" المختلفة، وإنما أيضا من انخفاض أسعار النفط، والتدخلات الإقليمية والدولية المختلفة.
المؤكد أن ما جرى في المنطقة العربية كان مشابها لما حدث عندما واجهت أوروبا ثورتين متزامنتين مع نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر: الثورة الفرنسية والثورة الصناعية والتكنولوجية، وكانت الثورة الأولى هي التي استهدفت عمدا ومباشرة تحطيم الهياكل والنظم السياسية للدول الأوروبية بأفكارها عن "الحرية" و"الإخاء" و"المساواة"، وهي أفكار حملها معه نابليون بونابرت حينما توسع شرقا حتى وصل إلى موسكو على الأرض الروسية، ولكن الثورة الثانية كانت هي التي أصلت عملية تغيير أوروبا ومن بعدها العالم اقتصاديا واجتماعيا ثم سياسيا. كلتا الثورتين على أي حال كانت وراء تكوين العالم المعاصر كما نعرفه الآن، حتى بعد أن تمت هزيمة نابليون في عام ١٨١٥، وفي أعقاب الهزيمة قامت أربع من القوى المحافظة، روسيا والنمسا وبروسيا وبريطانيا، عملية لإدارة التغيير والحفاظ على توازن القوى في القارة الأوروبية، وفيما بعد أضيفت فرنسا إلى القائمة، وشكلت القوى الخمس ما أصبح معروفا باسم "منظومة أوروبا" Concert of Europe أو "كونجرس فيينا" لإدارة التغيير ومواجهة إمكانية نشوب ثورة أخرى.
ورغم أن ما بقي في الأذهان، وتجري الذكريات عنه بعد عشر سنوات منذ بداية القصة عندما أضرم "محمد البوعزيزي" النار في نفسه احتجاجا على الحكومة في مدينة سيدي بوزيد التونسية، مما أثار مظاهرات انتشرت في جميع أنحاء البلاد؛ من ساعتها بدأ التاريخ دورته التدميرية التي من ناحية عكست فقر القيادة الشديد فيما جرى من أحداث، والانتهازية السياسية الكبرى للحركات الإسلاموية المختلفة، وحالات الغدر الجيوسياسية الخاصة بالدول الإقليمية التي انهالت على الإقليم العربي بالاختراق والنفوذ والوجود العسكري، كما فعلت إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وبالوجود والاحتلال العسكري كما فعلت تركيا.
ولكن ذلك لم يكن كل القصة التي جرت خلال العقد الماضي، فقد تولدت عن الموجة الثورية موجة إصلاحية كبرى كما حدث في أوروبا أخذت أشكالا مختلفة، مما بات يسمى "رؤية ٢٠٣٠" في دول عديدة، وفي النصف الثاني من العقد بدأت عمليات الإصلاح في أكثر من دولة عربية.
ومنها رؤية ٢٠٣٠ مصرية تلاءمت مع الظروف المصرية الخاصة. الإصلاح المصري قام على نقلة كيفية في استخدم الجغرافيا والثروة من خلال عمليات تنموية واسعة النطاق تقوم على انتقال التركيز المصري من "النهر" أو وادي النيل إلى "البحر"، إذ توجد الشطآن الممتدة؛ حيث البحران الأبيض والأحمر وخلجان السويس والعقبة.
باقي الدول العربية كانت لها مساراتها الخاصة، وتجربتها الإصلاحية التي واجهت بالفعل ما جرى قبل عقد من الزمان، ولم يعد الأمر كما زعمت الكتابات الغربية انتظارا لعودة ما سمي الربيع العربي وإنما تجاوزه بالتغيير والتنمية والاستقرار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة