في كل أزمة تلمّ بأمتنا العربية أو بأحد أقطارها، أجدني مستحضراً تلك الأسطورة التي تعودت سماعها في الصغر من حكماء القرية القابعة في حضن جبل في أواسط صعيد مصر حيث يكمن المخزون القيمي للمجتمع المصري على حد تعبير لويس عوض.
فقد اعتاد الكبار تعليمنا ألا ننشغل بالخلافات الداخلية بين أفراد العائلة عما يترصدنا من مخاطر خارجية.
فعادة ما يتلهى صغار العقول أو ضعاف النفوس أو قصيرو النظر بخلافات داخل الوحدة الاجتماعية التي ينتمون إليها، سواءً أكانت عائلة، أم جماعة، أم أمة، عن مخاطر جمة قد تودي بهم جميعاً، وعادةً ما تكون هذه المخاطر قادمة من خارج حدود كيانهم الاجتماعي الحضاري.
والأسطورة يا سادة يا كرام تقول: إنّ فلاحاً تأذى من الفئران التي اعتادت أن تتلف زراعته وتقضي على محصوله الذي أفنى نصف عام من عمره وعمر أسرته في رعايته والعناية به.
لذلك قرر أن يضع لها شراكاً كبيراً يصطادها جميعاً. وحينما تمّ له ذلك وضع جميع الفئران في "جوال" وهو كيس كبير من القماش السميك أو الصوف ثم وضعها على ظهر حماره وسار بها مطمئناً ليدفنها في الجبل، وفي الطريق قابله شيخ كبير، فبادره الفلاح الشاب بالتحية والسلام، وردّ الشيخ تحيته ثم سأله عما يتحرك داخل الجوال المحمول على ظهر الحمار، فقصّ عليه قصته فتبسم الشيخ ساخراً من سذاجة ذلك الشاب قليل الخبرة، حسن النية الذي لم تصهره التجربة ولم تعتركه الأيام بعد.
ثم قال الشيخ: ألا تعلم يا بني أن الفئران قد تعمد بأسنانها إلى هذا الكيس فتقطعه إرباً ثم تخرج منه وتهرب في الحقول المجاورة للطريق فتؤذي إخوانك الفلاحين وتتلف مزروعاتهم.
فردّ الشاب وماذا أفعل لأمنعها من القيام بذلك. فقال الشيخ: طريقة بسيطة يا ولدي: عليك أن تهزّ أحد جانبي الكيس هزة قوية ثم تهز الجانب الآخر بنفس الطريقة، فتعجب الشاب من هذا الفعل العبثي، وبادر الشيخ متسائلاً ولماذا أفعل هذا يا عمي؟ فقال الشيخ: لأنك إذا فعلت هذا ارتطمت رؤوس الفئران وأجسادها بعضاً ببعض وظن كل واحد منها أن الفأر الآخر قد ضربه فيمسك بخناقه ويرد له الضربة ضربتين، وبذلك تنشغل الفئران بالعراك فيما بينها وتتلهى عن قرض الكيس والخروج من سجنها الذي سيقودها إلى حتفها ودفنها في رمال الجبل الملتهبة.
وفعل الشاب ما نصحه به الشيخ ووصل بالفئران إلى الجبل وهناك قضى عليها مرة واحدة.
هذه القصة الأسطورية تزاحم كل النظريات السياسية التي تعلمتها على مدى 40 سنة عندما أتابع الصراعات العربية-العربية سواءً داخل الدول العربية أو فيما بينها.
وأجدني متسائلاً هل نحن أمة من العرب أم أمة من الفئران، وأعتقد أننا للثانية أقرب. فقد صار واحداً من خصائصنا ذلك "البعد الفأري" الذي صبغ السياسة العربية منذ قيام الدولة العربية الحديثة إلى اليوم.
والناظر في الواقع العربي المعاصر يجد نفسه مستدعياً بصورة تلقائية أسطورة الفئران لتفسير وفهم الصراعات المنتشرة في العالم العربي من الساحل الأطلسي إلى الخليج العربي.
جميع هذه الصراعات "الفأرية" تتبع نفس الاستراتيجيات القديمة الجديدة التي أهدرت مستقبل الأمة العربية وضيعته.
وقد يرى البعض في أسطورة الفئران تجسيداً لنظرية المؤامرة التي اعتاد بعض المثقفين العرب استخدامها بصورة متكررة مملة سواءً لنفى المسؤولية عن الذات واتهام الآخر، أو لتبرئة الآخر وتحويله إلى ملاك طاهر أو ساذج أبله واتهام الذات وجلدها.
وهنا ينبغي أن نؤكد أن التاريخ ليس مؤامرة كبرى، ولكن المؤامرة جزء من التاريخ، فهي أداة سياسية أساسية في جميع مراحل التاريخ وعند جميع الأمم وإلا لما قيل "الحرب خدعة" ولما كان هناك "حصان طروادة" ولما نشأت أجهزة ضخمة للاستخبارات العامة أو الاستخبارات العسكرية.
ولما أنفقت الدول ميزانيات طائلة على أعمال التجسس ولما كانت هناك مذكرات لقادة عظام، وإذا كان مفهوم المؤامرة قد تم تلويثه وتشويهه حتى تسترخي الضحية البلهاء وتستسلم بصورة طوعية هادئة فإن مفاهيم مثل "الحيلة" و"الخديعة" و"المكيدة السياسية" من المفاهيم التي لا يجب أن تغيب عن الأذهان وإلا لكنا في عالم من الأطهار أو الملائكة الأخيار الذين يتعاملون بكل شفافية ووضوح مع أعدائهم إلى حدّ أنهم لا يخفون عنهم شيئاً ولا يكيدون لهم ولا يتآمرون عليهم.
فاتخاذ المؤامرة كنظرية وحيدة لتفسير التاريخ أو الواقع أو عامل وحيد لفهم الأحداث هو نوع من التفكير غير المنهجي، وغير المنطقي، ولكن نفي وجود المؤامرة هو أيضاً تفكير غير واقعي أو غير منهجي كذلك.
بل إن نفي وجودة المؤامرة هو في ذاته أعظم مؤامرة لأنه مؤامرة على العقل والفهم تحوّل المقتنعين بعدم وجود مؤامرات إلى بلهاء سذج لا يرون من الواقع إلا ما يحدده لهم خصومهم وأعداؤهم.
ولا يستطيعون الغوص خلف الواقع أو التفتيش فيما ورائياته المتعددة والتي قد تقود إلى معرفة أكثر عمقاً بواقع الأمور وأكثر إصابة لحقائقها.
لذلك فإن نظرية الفئران هذه يجب أن تؤخذ كواحدة من طرائق الفهم والتفسير لواقعنا العربي الذي وصل إلى أدنى درجات التردي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة