صادرات السلاح التركية للجماعات الإرهابية.. تجارة رائجة ودعم للتطرف
قامت تجارة السلاح الرائجة بين تركيا والجماعات الإرهابية عبر الإقليم على تحقيق المصالح المتبادلة
تنوعت أساليب دعم ومساندة تركيا للجماعات الإرهابية على مسرح عمليات الشرق الأوسط عبر سنوات خلت لتحقيق مصالحها ما بين نفط أو نفوذ أو مال. وبرز ذلك على نحو خاص في أنماط العلاقات والتشابكات التي جمعتها مع مجموعة متنوعة من الجماعات المتطرفة التي انتشرت على العديد من مسارح الإقليم بعد عام 2011.
لم يكن السلوك التركي موجهاً في جوهره لساحة دون غيرها، وإنما امتد وطال الجميع ابتداء من مصر مرورا بليبيا وسوريا والعراق والصومال والسودان.
وارتكزت هذه العلاقة على محركين أساسيين، أولهما يتعلق بالرابط الأيديولوجي بين نخبة حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا والعديد من التيارات الإرهابية، وثانيهما يرتبط بصادرات السلاح إلى هذه الجماعات، باعتبار أن المدخل التجاري شكل محركاً رئيسياً في سياسات تركيا نحو الإقليم.
وتنوعت أنماط التجارة ففي سوريا حيث استخدمت تركيا دعمها للمتطرفين هناك للحصول على المقابل من جماعات تضخمت عوائدها المالية من جراء عمليات تهريب النفط والآثار عبر الحدود، وهي المواد التي وجدت رواجا في السوق التركية، وتورط فيها وسطاء مثلوا مسؤولين أتراكا.
وحصلت أنقرة مقابل دعمها لهذه الجماعات أيضا نفوذاً غير مسبوق كما حدث في الصومال، عبر إقامة أكبر قاعدة عسكرية خارج البلاد، دون تكلفة مالية تذكر، حيث وفرت أنقرة دعما متنوعا لعناصر في "حركة الشباب" التي غضت الطرف عن الانتشار الواسع للثقافة التركية في المجتمع الصومالي.
كما وظّفت دعمها للجماعات الليبية المسلحة للضغط على دول الجوار، وتوسيع رقعة نفوذها في دولة غنية بالنفط وارتبطت تركيا معها من قبل بمصالح تجارية واقتصادية ضخمة.
مؤشرات من داخل تركيا
لم يكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يغامر بعلاقاته الاقتصادية والتجارية مع أقطاب إقليمية كبرى إلا بسبب علاقاته المتشعبة مع الجماعات الإرهابية، التي يحقق من ورائها عوائد اقتصادية ضخمة لنظام حكم تعبّر هويته عن تزاوج المال السياسي والأيديولوجية المتشددة.
رصد أنماط التجارة المحظورة ومخاطرها لم يقتصر على الخارج وأدواته، إذ إن الداخل التركي بأطيافه كان على دراية بطبيعتها، ترتب على ذلك أن شكلت ورقة استخدمتها المعارضة في إطار السجالات السياسية.
فقد كشف رئيس حزب الشعب الجمهوري التركي كمال كليجدار أوغلو عن وثائق تثبت تزويد الحكومة تنظيمات إرهابية بالسلاح.
تصريحات كليجدار أوغلو استندت على وثائق، حسب قوله، هذا فيما تضمنت إفادات سائقي الشاحنات المحملة بالسلاح والمدعين العامين الذين أوقفوا بعض شاحنات السلاح في مدينة أضنة، (جنوب تركيا)، وقاموا بتفتيشها، أن أنقرة قدمت سلاحا للجماعات الإرهابية في سوريا.
هذا فيما ادعت الحكومة التركية أن تلك الشاحنات كانت تحمل مساعدات إنسانية للتركمان، الأمر الذي نفاه سياسيون تركمان تماما، وهو ما أكده في أكثر من مناسبة نائب رئيس الحزب بولنت طازجان.
على جانب آخر، أظهر تقرير، في جريدة جمهوريات التركية، أن "Fuat Avni" وهو مدّون تركي شهير قدم أشرطة تسجيلية تؤكد أن تركيا قدمت مساعدات عسكرية لتنظيم داعش، وغضت الطرف عن تجارته الرائجة عبر الحدود المشتركة مع سوريا.
ووفقا لجريدة راديكال التركية في عدد 13 يونيو/حزيران 2014، وقع وزير الداخلية الأسبق معمر جولر قرارا توجيهيا تحدث فيه عن ضرورة مساعدة "جبهة النصرة" الإرهابية في معاركها ضد القوات الكردية.
وذكرت بعض التقارير تصريحات لدانجير مير محمد فرات، العضو المؤسس في حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي تقدم باستقالته من الحزب، أن تركيا دعمت الجماعات الإرهابية وعالجت مقاتليها من أجل إيقاف تقدم الأكراد في سوريا.
وكشفت جريدة "جمهورييت" أدوار السلطات التركية في تهريب السلاح للجماعات الإرهابية مقابل النفط، حيث نشرت صور قذائف هاون مخبأة تحت أدوية في شاحنات اعترضتها قوة درك تركية قرب الحدود السورية.
وهدد أردوغان الصحيفة ورئيس تحريرها علنا بأنهما سيدفعان "ثمنا باهظا" جراء ذلك.
ونشر الصحفي التركي فهيم تستكين مقالاً في جريدة "راديكال"، تحدث فيه عن الأنابيب غير المشروعة التي نقلت النفط من سوريا إلى الحدود التركية، حيث كان يباع النفط بأقل من 1.25 ليرة للتر الواحد.
وبعد فترة أوضح تستكين أن هذه الأنابيب تم تفكيكها بعد 3 سنوات من عملها، بمجرد نشر مقاله حولها.
هذا إضافة إلى تصريحات أحد مسؤولي وزارة العدل التركية، أشار فيها إلى تورط بعض الشخصيات التركية في بيع النفط المهرب من سوريا عبر جماعات إرهابية، وهو الأمر الذي أكده أيضا أحد أعضاء البرلمان الألماني عن حزب الخضر.
ووفقا لجريدة "Nuhaber" التركية، هناك شرائط فيديو تُظهر قوافل عسكرية تركية -عليها كتابات باللغة التركية- تحمل دبابات وذخائر كانت تتحرك بحرية تحت أعلام داعش فى مدينة جرابلس ومنطقة كاركاميس الحدودية.
مؤشرات خارجية على تجارة تركيا
المواقف الدولية من تجارة تركيا الرائجة لم تكن بالحزم الكافي لكي تراجع موقفها على نحو مطلق، فقد حث الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما على نحو علني نظيره التركي على تبني مواقف مغايرة من التنظيمات الإرهابية التي تتحرك عناصرها وتجاراتها عبر الحدود.
ورغم الحملة التي قادتها إدارة الرئيس أوباما لتضييق الخناق على شبكات بيع النفط لمصلحة التنظيمات الإرهابية، فإن تركيا -وفقا لجريدة نيويورك تايمز- لم ترغب في إحكام القبضة الدولية على الشبكة، نتيجة تورط مسؤولين حكوميين في شبكات البيع هذه، والاستفادة من انخفاض أسعار النفط، فتقارير عدة أكدت أن تركيا حصلت على عوائد ضخمة من جراء تجاراتها مع هذه التنظيمات.
ومع تصاعد الجدل دوليا حول مدى التورط التركي في هذه التجارة غير المشروعة خصصت العديد من الجهات الأكاديمية جهدا لتوثيق السياسات التركية حيال العديد من الساحات المكتظة بالعناصر الإرهابية.
وقام برنامج "بناء السلام وحقوق الإنسان" في جامعة كولومبيا بإعداد تقرير لتقييم طبيعة العلاقات بين تركيا وداعش.
وأوضح التقرير قيام جهات تركية بتوفير المعدات العسكرية لتنظيمات إرهابية، ورصد العديد من الأدلة، منها قيام وسطاء بتمويل شحنات أسلحة تم تهريبها عبر رحلات طيران كانت متوجهة إلى دول أوروبية، ولكنها هبطت في مطار "Etimesgut" التركي، وهناك انقسمت محتويات الشحنة على عدد من الحاويات، تم إرسال اثنتين منهما إلى داعش والثالثة إلى غزة.
وتحدث أحد قادة داعش لجريدة واشنطن بوست حول قدوم معظم إرهابيي داعش إلى العراق وسوريا عبر تركيا، وكذلك المعدات والإمدادات العسكرية.
وذكرت وكالة CNN Turk أن هناك عدة مناطق في قلب إسطنبول أصبحت بقعاً لتجمع العناصر الإرهابية وتدربها، وهو الأمر الذي يتضح من خلال عدة مقاطع فيديو تم وضعها على موقع دعائي باللغة التركية تابع لداعش "takvahaber.net".
وأكدت تقديرات أمنية أن قوات الشرطة التركية كان في مقدورها إيقاف هؤلاء الإرهابيين ولكنها لم تفعل، وهو الأمر الذي دفع عددا من نواب البرلمان التركي إلى تقديم أسئلة لوزارة الداخلية حول مدى صحة وجود معسكرات للإرهابيين في تركيا، وإذا كانت تلك المعسكرات تشهد أعمالا تدريبية بالفعل.
ووفقا لتحليل الأكاديمية العسكرية الأمريكية "ويست بوينت West Point" لأكثر من 4,600 من تسجيلات عناصر داعش، فإن 93% من الإرهابيين الأجانب المسجلين دخلوا إلى سوريا عن طريق 6 مدن حدودية مختلفة: يايلاداغى، أتميا، أعزاز، الري، جرابلس، وتل أبيض.
وكشفت حادثة إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية SU-24 في نوفمبر 2015 الكثير بشأن تجارة تركيا مع التنظيمات الإرهابية، فاتهمت وزارة الدفاع الروسية عائلة الرئيس التركي أردوغان بالتورط بشكل مباشر في تجارة النفط مع التنظيمات الإرهابية.
وقال أناتولي أنتونوف، وكيل وزارة الدفاع الروسية، إن تركيا مثلت أكبر مشترٍ للنفط المهرب، وأوضح أن عائدات الاتجار غير الشرعي بالنفط مثلت ملايين الدولارت يوميا.
وبين أنطونوف أن التدفقات الناتجة عن الاتجار بالنفط موجهة ليس إلى زيادة ثروة القيادة السياسية والعسكرية في تركيا فحسب، بل يعود جزء من تلك الأموال بشكل أسلحة وذخيرة ومرتزقة جدد في سوريا.
وثمة مؤشرات على أن تجارة السلاح التركية مع الجماعات الإرهابية تخطت حدود سوريا، وشملت العديد من الدول والجماعات وأغلبها جاء عبر شحنات قدمت عبر البحر.
وأشارت تقديرات إلى أن السلطات المصرية ضبطت العديد من الشحنات التي جاءت داخل حاويات تجارية وكذلك عبر الحدود الجنوبية والغربية، لا سيما بعد سقوط حكم تنظيم الإخوان الإرهابي.
وحملت السلطات الليبية تركيا مسؤولية تدهور الأوضاع الأمنية في البلاد بسبب شحنات الأسلحة التي قدمتها للجماعات الإرهابية.
واحتجزت ليبيا العديد من شحنات الأسلحة التي كانت توجد داخل حاويات ومصدرها تركيا، ووصف مسؤولو ليبيا حاويات تركيا من الأسلحة بـ"شحنات الموت".
وحاولت تركيا في يناير/كانون ثان 2018 تهريب 500 طن من المتفجرات إلى مدينة مصراتة الليبية (غرب)، لكن يقظة السلطات اليونانية كانت سببا في إحباط عملية تهريب أضخم كميات من المتفجرات والصواريخ إلى ليبيا.
وتبين حينها أن ثمة سفينة حملت الحاويات من ميناءي مرسين والإسنكدرونة، وكانت متجهة إلى مدينة مصراتة الليبية حسب ما قال ربانها لخفر السواحل اليوناني بعد ضبطه.
ووفق تقرير منظمة Small Arms Survey، فإن تركيا باتت إحدى النقاط الساخنة في الشرق الأوسط لبيع الأسلحة غير المشروعة عبر الإنترنت.
ولفت الموقع إلى أن عمليات تتبع 1346 محاولة بيع لأسلحة عبر شبكة الإنترنت أظهرت أن تجارة قطع الأسلحة تتم بواسطة تطبيقات الهواتف المحمولة، ومواقع التواصل الاجتماعي.
وأوضح أنه تم العثور على أسلحة من 26 دولة، في مقدمتها بلجيكا وتركيا ضمن عروض البيع التي تتبعت مصدرها وحددت مسارات تحركها.
إن تجارة السلاح الرائجة بين تركيا والجماعات الإرهابية عبر الإقليم قامت على تحقيق المصالح المتبادلة، فالسلاح مقابل النفط في الحالة السورية، والسلاح مقابل النفوذ في الحالة الصومالية، والسلاح مقابل المال عبر وسطاء كانت طريقة التحرك حيال العديد من المناطق التي استهدف أمنها واستقرارها لتحقيق مصالح الحكم التركي حيال بعض الحالات، كالحالة المصرية بعد يونيو/حزيران 2013.
ورغم تعدد التقارير والكتابات والتقديرات بشأن حجم الانخراط التركي في هذه التجارة المحظورة، تظل طبيعتها السرية والاستخباراتية أحد عوائق تقديم خريطة واضحة لطبيعة نموها ومعدلات تطورها عبر سنوات خلت، وإن حاولت بعض الجهات الأكاديمية والإعلامية الغربية والإقليمية خرق جدار الصمت بشأن هذا الملف الشائك.