لم يكن يوما الفن بمعناه الواسع تسلية خصوصا السينما والدراما والمسرح وغيرها.
لا يمكن أن نُقر بأن الفن مشاهدة، وفرجة، ومتابعة فقط حتى لو أصبح هذا جزءا من أهدافه. الفن في حقيقته تأثير، والواقع كل يوم يثبت هذه الحقيقة، خصوصا في مجال السينما والدراما.
في السابق قالوا إن الفن مرآة الواقع، يعكسه ويعبر عنه، قالوا أيضا الفن مصباح يضيء الواقع وينيره، وهو كذلك في الحالتين، لكن الثابت أن الفن يؤثر في هذا الواقع ويغيره.
هذا التغير إما أن يكون تغيرا تراكميا في الوعي ينتج لنا تنويرا، وإما أن يكون تنويرا ملحوظا وملموسا وهذا هو الأهم والأخطر في آن واحد. دائما يكون التغير تبعا لقيمة الفن، فلو كان راقيا حتما سيؤدي إلى تغير إيجابي، ولو كان رديئا حتما سيؤدي إلى تغير سلبي.
مؤخرا انتشر فيديو لشاب في محافظة كفر الشيخ إحدى المحافظات المصرية يقف بسيارته أسفل إحدى البنايات وفي يده مكبر صوت ويقوم بالتشهير بفتاة تدعى "سماح". وبصوت مرتفع ينادي على والد الفتاة بصوت "بنتك كانت ماشية معايا أربع سنوات". هو مشهد مستهجن عن واقع الحياة المصرية المحافظة، المحكومة بقيم وعادات وتقاليد، لذا أخذ حيزا على مواقع التواصل الاجتماعي وسمعت أن الأجهزة الأمنية تحركت لتعقب الشاب.
لا يهم ماذا سيحدث بعد ذلك فلن يحدث أسوأ مما حدث بالفعل. بالرجوع قليلا إلى تفاصيل هذا الفيديو نكتشف أنه تنفيذ لمشهد طبق الأصل من فيلم "صايع بحر" بطولة أحمد حلمي "وياسمين عبدالعزيز" الذي عرض عام 2004 للمخرج علي رجب. مشهد يظهر فيه "أحمد حلمي" وهو يقف أسفل بناية "خطيبته ميريت" التي ارتبطت بشاب آخر بعد قصة حب طويلة، وفي وصلة ردح وتشهير بصوت مرتفع يقوم بفضح هذه البنت.
أضيف على هذا الفيديو مجموعة فيديوهات أخرى انتشرت تعرض مواقف مشابهة لأفلام أخرى عرضتها شاشات السينما أو فيها تقليد لمشاهد من مسلسلات شهيرة.
تلك المشاهد تؤكد نظرية التأثير التي أشرت إليها سابقا، فكما الفن يأخذ من الواقع، الواقع أيضا يأخذ من الفن، وبدلا من أن يرتقي الفن بالواقع سقط به. دور الفن في السابق كان ملحوظا أيضا ومؤثرا بالشكل الإيجابي، وهنا سأشير إلى ثلاثة أفلام لم تغير الواقع فحسب بل غيرت القوانين نفسها.
الفيلم الأول هو "جعلوني مجرما" الذي قدم عام 1954 من تأليف وبطولة الراحل "فريد شوقي"، وبعد عرض هذا الفيلم تم تغيير قانون السابقة الأولى التي كانت تقف حجر عثرة أمام أي مخطئ يريد أن يبدأ من جديد بعد قضائه فترة عقوبته.
الفيلم الثاني هو "كلمة شرف" قدم في منتصف السبيعينات ومن تأليف وبطولة "الراحل فريد شوقي أيضا"، عقب عرضه تم تغيير قوانين السجون المصرية مما جعلها تسمح للسجين بالخروج لزيارة أهله ضمن ضوابط .
الفيلم الثالث هو فيلم "أريد حلا" لسيدة الشاشة العربية "فاتن حمامة" بعد عرض هذا الفيلم تم إقرار قانون الخلع، الذي يسمح للمرأة بتطليق نفسها عبر المحاكم .
إذا نحن أمام نموذجين للتأثير، الثاني هو التأثير الإيجابي حين يكون الفن راقيا يعمل ضمن الوظيفة التي من أجلها وجد، وهي التنوير والإصلاح وتربية الوعي والوجدان، أما النموذج الأول الذي لسوء حظنا بتنا نعيشه اليوم فهو نموذج الإسفاف والتدهور والانحلال، الذي نضح على الواقع وسقط به إلى أسفل.
كل المجتمعات تمر بحالة من الخلخلة التي ينتج عنها تصدع القيم وسقوط بعضها، لكن دائما هناك حوائط للصد والمواجهة تتمثل في النخب الواعية المتمثلة في الفنون والآداب والثقافة والوعي والتفكير.
إن موجة الأفلام الأخيرة نشرت بعضا من القيم المخيفة التي تصيب المجتمعات في مقتل، وهي البلطجة والتشهير والإساءة وغيرها من الفيروسات التي تقتل بقاء المجتمعات .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة