ربما يكون التحوّل الأعمق الذي أحدثه الذكاء الاصطناعي في التعليم ليس في طريقة التدريس أو التقييم، بل في ماهية المحتوى نفسه.
فالمنهج الدراسي، الذي كان يُنظر إليه يومًا بوصفه وثيقة جامدة تُراجع كل بضع سنوات، صار اليوم منظومة ديناميكية حيّة تتفاعل مع بيانات المتعلّم لحظة بلحظة، وتتكيّف مع مستواه واهتماماته، فيما يُعرف بـ«التعلّم التكيّفي» (Adaptive Learning).
في هذا النموذج يعيش كل طالب تجربة تعليمية فريدة، مصمّمة خصيصًا له.
لكن هذا التطور، رغم ما يحمله من وعود تربوية مذهلة، يفتح الباب أمام تحديات فلسفية وتربوية عميقة.
فإذا صار لكل طالب منهجه الخاص، فكيف نحافظ على المشترك المعرفي والثقافي الذي يوحّد أبناء المجتمع؟
وكيف نصون الهوية القيمية إذا كانت الخوارزميات هي التي تختار ما نقرأ ونفهم؟
الذكاء الاصطناعي، بقدر ما يمنح التعليم طابعًا شخصيًا ومرنًا، فإنه يهدد أيضًا بفقدان «النسيج المشترك» الذي كانت المناهج التقليدية تنسجه عبر الأجيال، إن لم يُؤخذ ذلك في الاعتبار.
ولذلك، لا بد من مقاربة متوازنة تجمع بين صرامة القيم وثبات الهوية من جهة، ومرونة المعرفة وتجددها من جهة أخرى.
فالمنهج لا ينبغي أن يكون وثيقة جامدة، ولا تطبيقًا عشوائيًا للخوارزميات، بل منظومة تربوية إنسانية تستفيد من التقنية دون أن تفقد بوصلتها القيمية.
إن المنهج الحديث مطالب بأن يواكب تطور الذكاء الاصطناعي دون أن يستسلم له.
فدور الدولة والمؤسسات التعليمية هو وضع الإطار المرجعي القيمي الذي يضمن التوازن بين حرية التعلّم الفردي ووحدة الثقافة الوطنية.
وفي داخله يمكن للذكاء الاصطناعي أن يخصّص التجارب التعليمية بحسب قدرات الطلاب، دون المساس بالمشترك الثقافي والمعرفي الذي يصنع المواطن والإنسان في آنٍ واحد.
لقد حان الوقت للانتقال من نموذج «المعرفة الموحّدة» إلى نموذج «المعرفة التفاعلية»؛
من التعليم الذي يُلقَّن إلى التعليم الذي يُشارك فيه المتعلّم؛
من المناهج التي تُملَى إلى المناهج التي تُكتشَف.
فالمحتوى المدرسي لم يعد يُقاس بعدد صفحاته، بل بقدرته على تحفيز التفكير وتنمية المهارات وبناء الشخصية المتوازنة.
وفي الوقت الذي تتسابق فيه الدول إلى تزويد مدارسها بالأجهزة والمنصات الذكية، يبقى التحدي الأعمق هو بناء ثقافة تربوية رقمية تدرك أن الغاية من التعليم ليست تكديس المعلومات، بل تكوين إنسان قادر على التفكير النقدي والعيش بوعي ومسؤولية في عالمٍ رقمي متحوّل.
إن المناهج التي ستنجح في المستقبل هي تلك التي تُوازن بين التقنية والمعنى، بين السرعة والدلالة، بين ما تُنتجه الخوارزميات وما يُبدعه الإنسان.
فالتعليم الذي يُختزل في بيانات رقمية بلا قيم يتحول إلى معرفة جوفاء، والمدرسة التي تنسى رسالتها الإنسانية تفقد روحها مهما بلغت تقنياتها تطورًا.
الذكاء الاصطناعي لا يهدد التعليم، بل يعيد إليه سؤاله الجوهري:
كيف نجعل المعرفة تُنير الإنسان، لا تُبرمج عقله؟
والمستقبل سيكون لمن يفهم أن التربية ليست في البرمجيات، بل في الضمير الذي يوجّهها والمعنى الذي يمنحها الحياة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة