إلى متى سنبقى مقيدين بعادات وأطروحات فكرية، تم تداولها في عصور خلت لأهداف سياسية، نبذت الآخر وحرّمت علينا التواصل معه بحجة أنه عدو الله وعدونا، فقط بسبب اختلافنا معه في الدين؟
فُجِعت الغالية مصر في "أحد الشعانين".. وهو يوم الأحد السابع من الصوم الكبير الذي يعد آخر أحد في فترة "الصيام الكبير" قبل عيد القيامة لإخوتنا أقباط مصر، الذين قال عنهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم " إذا افـتـتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا، فإن لهم ذمة ورحما"، هذه الوصية التي كَفَرَتْ بها جماعات التطرف والإرهاب، وهذه الوصية التي تغاضى عنها مشايخ الفتنة ووقود النار في خطبهم الرنّانة وفي محاضراتهم التي غسلت عقول النشء، هذه الوصية التي حشد لها جهابذة التطرف عصارة خبراتهم لتضعيفها والتقليل من صحّتها، لا لشيء سوى لإلصاق تهم التشدد والترهيب في ديننا الإسلامي الحنيف، ولتبرئة هذا الدين الذي أوصى بالرحمة للحجر والشجر قبل الإنسان من أي صفة للتسامح وقبول الآخر.
هذه الحادثة الأليمة وغيرها من الأحداث الإرهابية التي عصفت بأمتنا العربية والإسلامية لم تفرّق بين مسلم ومسيحي أو يهودي، ولم يقتصر أثرها على مصر والعراق والسعودية فحسب، بل امتدت لتطال لندن وباريس وستوكهولم، لكنها للأسف ارتبطت بتهمة واحدة لا نظير لها، وهي أن هذه الدماء البريئة تراق باسم الإسلام والجهاد في سبيل الله، وديننا الحنيف ووصايا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أبعد ما تكون عن ذلك.
لقد حان الوقت الآن أكثر من أي وقت مضى لأن تعلو أصوات كل من لديه غيرة على الدين الإسلامي، وأن نطالب بضرورة وقف خطابات الكراهية، والتصدي بكل شجاعة وحزم لكل من يحاول اختطاف الإسلام وإلباسه عباءة التشدد والغلو والتطرف.
إلى متى سنبقى مقيدين بعادات وأطروحات فكرية، أؤكد، فكرية وليست دينية، تم تداولها في عصور خلت لأهداف سياسية واجتماعية، نبذت الآخر وحرّمت علينا التواصل معه بحجة أنه عدو الله وعدونا، لا لسبب سوى اختلافنا معه في الدين، متناسين قوله تعالى "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" العنكبوت (٤٦)، وتجاهلنا كلامه عز وجل في سورة البقرة " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا والنصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (٦٢(.
ألم يدر في خلد من يدعون إلى هدم الكنائس بحجة أنها مخالفة للشرع، أن الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين وتابعيهم، قد مرّوا على كنائس الشام ومصر والعراق غيرها ولم يأمروا بهدمها أو إزالتها؟ أليست كنائس مصر التي نراها الآن هي ذاتها التي مر عليها عمرو بن العاص؟ أليست هي ذاتها التي عاصرت حكم المسلمين لمصر لمدة ١٤٠٠ عام؟ ألم يشاهد من يحرّم فن النحت والرسم، تماثيل الرومان وأهرامات الفراعنة ومنحوتات كسرى في بلاد فارس؟ لماذا لم يحطموها أو يدعوا إلى تشويهها؟ وها هي نراها اليوم شامخة وشاهدة على تسامح الإسلام والمسلمين مع الديانات والثقافات الأخرى.
ألم يتوفى الرسول صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة لدى "أبي الشحم" اليهودي؟ ألم يُبح الإسلام لأتباعه الزواج من المسيحيات واليهوديات؟ ألم يحلّ لنا ديننا الحنيف أن نأكل من طعام آهل الكتاب؟ في قوله تعالى " الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" المائدة (٥)، وبعد هذه الآيات البينات يظهر لك من يحرّم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم بحجة أن في ذلك شركا وكفرا بالله تعالى وصدا عن دين الحق، فكيف للمسلم الذي يوصيه ربه بالمودّة والرحمة مع زوجته ألّا يتقدم بالتهنئة لها في أعيادها إن كانت مسيحية أو يهودية؟! أين هذه العقول التي تدعو لقتال غير المسلمين المسالمين من قوله صلى الله عليه وسلم "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا".
إلى متى سنبقى مقيدين بعادات وأطروحات فكرية، تم تداولها في عصور خلت لأهداف سياسية، نبذت الآخر وحرّمت علينا التواصل معه بحجة أنه عدو الله وعدونا، فقط بسبب اختلافنا معه في الدين؟
لماذا تجاهلنا كل ذلك من تاريخنا الإسلامي، وتمسكنا برأي "هذا" في مجابهة أهل الضلال ودعوة "ذاك" إلى تطهير الجزيرة من الأوثان؟! علينا أن نصارح أنفسنا كمسلمين قبل أن نناقش الآخر، علينا أولا أن نتقبّل الطرح الفكري والثقافي المخالف فيما بيننا كمسلمين قبل أن نفكر في مجادلة أهل الكتاب والديانات الأخرى، إن نظرة سريعة في كتب التراث الإسلامي التي أُعطِيَت قدسية توازي قدسية القرآن والسنة، تبيّن لنا حجم الغلو والتطرف وتكفير الآخر، فقط بسبب اختلافنا معه في تفسير هذا النص أو ذاك، ناهيك عن كثير من الفتاوى التي حكمت أن مصير هذا أو ذاك إلى جهنم لمجرد أنه يسبل ثوبه أو يحلق لحيته، وتجاهلنا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة".
إن ما تمر به أمتنا الإسلامية من أزمة فكرية وثقافية، مردّها إلى التناقض في الخطاب الديني الموجّه إلى الشباب، والذي لابد لنا أن نعلن صراحة أن هذا التناقض له دور كبير ومؤثر في تهيئة الشاب لقبول الآراء والأطروحات السياسية والفكرية المتطرفة التي تتزين بنصوص الدين، وتستغل عواطف الشباب أسوأ استغلال، وتوظف حماسهم في تنفيذ أجندة سياسية لجماعات أبعد ما تكون عن الدين، وما حققته الجماعات الإرهابية المتأسلمة من نجاح في تجنيد الشباب كالإخوان المسلمين وما خرج من رحمها كالقاعدة وداعش وبوكو حرام، إنما كان بتسهيل ومساعدة بقصد أو دون قصد من المناهج التعليمية والطرح الإعلامي في عالمنا العربي، الذي كان ولا يزال يعلي من قيم التكفير وازدراء الأديان وقتال من يخالف العقيدة والدين، ويقدمها للنشء بأنها من صفات الشجاعة والإقدام، ويصور التسامح والتراحم وإعلاء قيم السلام بأنها صورة من صور الخنوع والاستسلام، أو تلك الجماعات الإرهابية الطائفية كحزب الله وعصائب أهل الحق وفيلق بدر وغيرها من جماعات التطرف المذهبي، التي نجحت في استغلال حب آل البيت وقضية استشهاد الحسين رضي الله عنه، لصالح أجندات طائفية ومذهبية استباحت من خلالها الحرمات وروّعت الآمنين في سوريا والعراق واليمن.
إن التمعّن القليل في محتوى الخطب الدينية على المنابر أو تلك التي تنتشر من خلال شبكات التواصل الاجتماعي أو عبر مواقع الانترنت، تكشف لنا الكثير من الخيوط التي تقودنا إلى حلحلة هذه المعضلة التي تعاني منها أمتنا الإسلامية، والتي يكمن الحل فيها بمراجعة الخطاب الديني، وهنا لا بد من الإشادة بالبيان الذي أصدرته هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية والذي جاء تعقيبا علي التفجير الإرهابي الجبان الذي استهدف كنيستي مارجرجس في طنطا ومارمرقس، حيث جاء نص البيان واضحا لا لبس فيه ويقول "إن التفجيرات التي استهدفت كنيستين في مصر عمل إجرامي محرم شرعا بإجماع المسلمين، فهو هتك لحرمات الأمن والاستقرار وحياة الناس الآمنين"، مثل هذه الخطوة الجريئة والصريحة من الهيئة، حريّ بأن تتبعها خطوات جادة تمنع بث خطاب الكراهية، فكيف لنا أن نقنع الشباب بالتعايش السلمي مع أصحاب الديانات الأخرى، وهناك أئمة ووعاظ لا زالوا يدعون بأدعية ما أنزل الله بها من سلطان على اليهود والنصارى والمشركين ومن والاهم، بأن يعمي الله أبصارهم ويصم آذانهم ويفقر غنيهم وأن تدور الدائرة عليهم وأن تُرمَّل نسائهم ويُيتّم أطفالهم وتنخسف بهم الأرض.
عليكم أن تتخيلوا ردة فعل شاب يستمع لهذه الأدعية في كل جمعة أو بعد كل ندوة ومحاضرة دينية، بالتأكيد سيهب للدفاع عما يعتقد أنه أمر الله الذي لابد أن ينفذ وأن ينصر دينه ويلقى ربه شهيدا، عندها ربما نعي الخطر ونعرف من يتحمل وزر تشويه ديننا والفتك بأرواح الأبرياء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة