إبراهيم أصلان.. صاحب "خلوة الغلبان" صنع عالما كاملا في "الكيت كات"
إبراهيم أصلان يقول في لقاء سابق مع إذاعة لندن إنه "يكتب ليكتشف ذاته ومن حوله" وربما تكون هذه الإجابة معبرة عن جوهر العالم الإبداعي لديه
"إن تجربتي ليست شيئاً، وحياتي ليست شيئاً مختلفاً"، من هذه العبارة ربما يتضح السر في تحقيق أعمال الكاتب المصري إبراهيم أصلان، الذي حلت ذكرى وفاته، الإثنين، نجاحاً لافتاً على المستويين الجماهيري والنخبوي، فيُحتفَى به جماهيريا، إذ إن الرهان على الصدق لم يخلف وعده بالنجاح مع أي مبدع، فقد كان هو ذلك الإنسان الذي أخلص لمفردات عالمه، فكان لا يكتب عما يعرفه فقط، وإنما يكتب عما علمه واشتبك به، واعتمل بداخله من أماكن وشخوص حقيقية حية على الدوام في أعماله، بكل تواريخها ومشاعرها وأفكارها التي اتحدت به.
في لقاء مع إذاعة لندن، قال إبراهيم أصلان عندما سئل: ما مشروعك الإبداعي؟ إنه يكتب ليكتشف ذاته ومن حوله، وجاء هذا الرد وسط إجابات متباينة ذكرها مبدعو جيل الستينيات خلال هذه الحلقة نفسها، وربما تكون هذه الإجابة قصيرة بسيطة، ولكنها معبرة عن جوهر العالم الإبداعي لديه.
ورغم انتمائه إلى هذا الجيل، وتعرضه معهم لنفس المزيج من الحرب والقسوة والألم والاضطراب والمواقف المتضاربة من عملية السلام، والتحولات الاجتماعية والاقتصادية العاصفة، فإنه لم ينحز إلا للإنسان المهمش البسيط، دون شعارات رنانة، وكانت محاولاته مضيئة للغاية، ضمن مشاريعهم الإبداعية التي حاولوا فيها أن يؤسسوا لرواية أخرى بجوار رواية نجيب محفوظ، حيث التركيز على رهافة الالتقاط، وإعادة إنتاج الموروث بشكل آخر.
ولا شك أن صاحب "خلوة الغلبان" قد عمل على إبراز قيمة الإنسان في مقابل قيمة الأشياء، ومن السمات الأسلوبية للسرد عند "أصلان" استخدام استراتيجية نقل مركز الاهتمام من الأشياء إلى العلاقات الإنسانية، فالعلاقات الإنسانية هي التي توجِد الأشياء وتمنحها القيمة، والاهتمام بالصورة السردية التي تقوم على عنصر الحركة مع تباين الزمان والمكان.
لكن يظل أهم ملامح مشروع أصلان الإبداعي هو ارتباطه بالمكان ومفرداته، فلم يُعرف توحد المكان مع السرد مثلما هو لدى إبراهيم أصلان، وتبقى روايته "مالك الحزين"، والتي نفذت سينمائيا فيما بعد في الفيلم المصري الشهير "الكيت كات"، هي أكثر أعماله التي اعتنت بالمكان، حتى يكاد المكان أن يكون هو البطل الخفي للعمل، فعلاقة الشيخ حسني بمنطقة الكيت كات، والمدرسة الابتدائية التي عمل بها لسنوات، واعتياد خطوته، وهو كفيف، أرض إمبابة وكورنيش النيل، والمقهى الذي كان يتعرف فيه على الأكفّاء الجدد، وذلك بعد أن جند عبدالله (القهوجي)، ليعمل لديه مرشدا يدله على الأكفّاء، ليخلص القارئ في النهاية إلى أن المكان بقسماته الحقيقة هو بداخل هذا الشيخ، وليس المكان المادي.
قال إبراهيم أصلان في إحدى مقابلاته الصحفية: "مسألة المكان تشغلني جداً، لأنني عند كتابتي لا أهتم بالكتابة عن المكان من الخارج، وإنما لدي إحساس (يكاد يكون عضوياً) بالمكان كباطن، لا أكتب إلا عن حدود جغرافية واضحة جداً بالنسبة لي.. ومن هنا ربما يكون إحساسي بالمكان مهم جداً وإن لم أكتبه، وما دامت هناك ذاكرة مع المكان، وروابط خصوصية، فهذا يعني أنه يحمل شيئاً حميماً".
ولعل هذا يبرر اعتنائه بأن يكون العمل الروائي عبارة عن مجموعة من الالتقاطات البسيطة، التي تبدو وكأنها قصص قصيرة ترتبط في معظمها بفكرة المكان، واستلهام طاقاته الجمالية والدلالية.
ورغم التكريمات والجوائز المستحقة التي نالها إبراهيم أصلان في حياته، فإن تكريمه بعد وفاته من خلال مشروع "عاش هنا"، كان هو الأقرب إلى مشروعه الإبداعي المبني على إيمانه العميق بفكرة المكان، حيث وضعت لافتة باسم الكاتب الراحل، على المنزل رقم 22 بشارع فضل الله عثمان، بالكيت كات، إمبابة، ضمن المشروع الذي يقوم عليه الجهاز القومي للتنسيق الحضاري.
ومن خلال هذا المشروع يتعرف المارة على الشخصية، وكيف أثرت في وجدان المصريين منذ سنوات طويلة من خلال استخدام تطبيق QR، الذي يوجد على كل لافتة، ومن خلاله يدخل المارة إلى جميع البيانات والمعلومات التي تتعلق بالمبدع.
تتجلى هذه الرؤية في معظم أعماله، ومن ذلك مجموعاته القصصية، وهي "بحيرة المساء"، و"يوسف والرداء"، و"وردية ليل"، ورواياته "مالك الحزين"، و"عصافير النيل"، و"حجرتان وصالة"، و"صديق قديم"، وبعض الكتابات الأخرى، مثل "خلوة الغلبان"، و"حكايات من فضل الله عثمان"، و"شيء من هذا القبيل".
وحصل الكاتب الكبير الراحل على جوائز مهمة عن بعض هذه الأعمال، منها جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2003م – 2004م، وجائزة طه حسين من جامعة المنيا عن رواية "مالك الحزين" عام 1989م، وجائزة كفافيس الدولية عام 2005م، وجائزة ساويرس في الرواية عن "حكايات من فضل الله عثمان" عام 2006م.
ليصبح إبراهيم أصلان على جزءاً من ذاكرة المكان وأهله على الدوام، قبل أن يتوفى في 7 يناير/كانون الثاني، من عام 2012، عن عمر يناهز 77 عاماً.