كان الرهان على انسحاب أمريكي سريع من سوريا، لكنّ ترامب عاد وبدَّل رأيه عندما لم يجد من يقف إلى جانبه في هذا القرار.
قبل انطلاق أعمال قمة أنقرة الثلاثية التي جمعت المتناقضات التركية والروسية والإيرانية كان الرهان على فشل محتم، بسبب التباعد الحقيقي بين تركيا وإيران في التعامل مع الملف السوري. لكن الواضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجح في التهدئة بينهما، وتخفيف حدة التوتر، وإيصال الأمور إلى هدنة وبيان ختامي حول القواسم المشتركة الأصغر والعبارات الكلاسيكية في دعم وحدة سوريا واستقرارها.
الحماس دفع المحللين في مجموعة الآستانة الثلاثية، إلى الرهان على أن قمّة أنقرة ستضع أسس نواة تحالف شرقي يقرّب تركيا أكثر من إيران وروسيا، ويبعدها عن واشنطن، في ظلّ تضارب المواقف والتنافس التركي الأمريكي على منبج السورية. فروسيا في حلمها الجديد باتت تعد تركيا أقرب إلى المشروع الروسي في سوريا منها إلى الأهداف الأمريكية، والتقارب التركي الإيراني سيفتح الطريق أمام تشكيل تحالف شرقي كامل قد تنضم الصين إليه لاحقاً في بقعة جغرافية واسعة. فما الذي يريده بشار الأسد غير ذلك، حتى ولو طلب إليه الجلوس في الغرفة المجاورة لمكان انعقاد قمة طهران؟
واشنطن التي تستعد لتنفيذ هجماتها العسكرية ضد مواقع النظام تريد أن تقول للتفاهم الثلاثي في قمة أنقرة، إنها لن تقبل بتكتل من هذا النوع يقف خلف بشار الأسد، وإنها لن تقبل بمحاولة قلب المعادلات في سوريا رغماً عنها، وإن علاقاتها مع شريكها المحلي، قوات سوريا الديمقراطية، لن تتغير في هذه الظروف
لكنّ الأسد أفسد كل هذه المعادلات والسيناريوهات بارتكاب مجزرته في الغوطة الشرقية التي ستؤزّم العلاقة بين الدول الثلاث، وقد تطيح باجتماع طهران نفسه.
نجح رأس النظام في سوريا وهو يقصف المدنيين في دوما بإسقاط الخطة الروسية الإقليمية المتعددة الجوانب والأهداف بلمحة بصر، وعطّل التحرك الإيراني نحو عقد قمة ثلاثية واعدة، من خلال إشعاله فتيل العلاقات التركية الروسية بسرعة البرق، وقاد رأس الدبلوماسية الروسية لافروف إلى تفجير غضبه بوجه أنقرة التي تتمسك بعدم مغادرة عفرين وتسليمها إلى النظام السوري بقوله: "عندما بدأت الولايات المتحدة بتوفير ملاذ آمن لبعض الكيانات الكردية في الشمال السوري، اعتبرت تركيا هذه الخطوة تهديداً لأمن حدودها، وأرادت التدخل، لكنّ أردوغان لم يصرح أبداً بأنّ بلاده تنوي البقاء هناك، بل إن القوات ستغادر عند انتهاء عمليتها، والوقت حان للقيام بذلك".
ما الذي أغضب موسكو وهي التي كانت ترعى مشروع تكتل إقليمي مع إيران وتركيا وتضع اللمسات الأخيرة عليه في قمة طهران المرتقبة؟ وما الذي جرى بعدما كان الحديث يدور عن تحرك التفاهم الثلاثي لملء الفراغ الذي سيخلفه الأمريكيون في حال تنفيذ دونالد ترامب قرار سحب القوات من سوريا، وسط إصرار تركي على تطهير وإقامة منطقة حدودية آمنة بعمق 30 كيلومتراً، ورغبة إيرانية في السيطرة على المناطق المحيطة بالعاصمة السورية دمشق وتأمين خط الجمع بين طهران وبغداد ودمشق وبيروت، وتمسُّك موسكو بنفوذها الاستراتيجي أمام السواحل السورية المطلة على شرق المتوسط؟
مؤشرات كثيرة تطرح احتمال سقوط جهود التحرك الثلاثي الروسي التركي الإيراني مع أول نفخة أمريكية وتكشيرة للرئيس ترامب بأنه قادم لقول ما عنده.
ترامب الذي تحدث عن انسحاب أمريكي قريب من سوريا يتحدث هذه المرة عن ضربة عسكرية ستوجه إلى النظام في سوريا بعد مجزرة دوما الأخيرة. فليس من المعقول المغادرة وترك الشركاء والحلفاء الجدد لأمريكا في سوريا وحيدين أو التخلي بمثل هذه البساطة عن قرار إنهاء "داعش" ومواجهة نفوذ موسكو وطهران المتمدد في المنطقة وإخلاء الساحة أمامهما، لتصعدا ضد بلاده كما تشاءان.
قمة طهران التي كانت تستعد لوضع اللمسات الأخيرة على مشروع تقاسم النفوذ في سوريا من خلال رجحان كفة الثلاثي في تقرير الأوضاع السياسية والعسكرية في سوريا، وفي رسم صورة التسوية انطلاقاً من تفاهمات الآستانة وسوتشي، واحتمال إقناع أنقرة بصيغة تفاهمات جديدة مع النظام السوري على طريق المرحلة الانتقالية في البلاد؛ قابلتها قراءة أمريكية جديدة تتعارض مع سياسة نفض اليد عن سوريا، والتخلي عن نفوذها وحلفائها المحليين، والإعلان عن الاستعداد لتلقين النظام السوري الدرس المناسب، بسبب ما ارتكبه من مجازر في الغوطة ضد المدنيين.
إعلان الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، أن عملية "غصن الزيتون" مستمرة حتى تطهير مدينة تل رفعت، وأن بلاده عازمة على تسوية في سوريا تنطلق من "تحقيق المرحلة الانتقالية السياسية، وصياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات مستقلة وشفافة وعادلة في إطار القرار (2254) الصادر عن مجلس الأمن الدولي"؛ يعكس حقيقة حجم التباعد بين أنقرة وموسكو وطهران، وأن القوات التركية باقية في شمال سوريا لمدة طويلة، وأن قمة طهران قد تُدفن في المهد، خصوصاً أن ترامب دخل على الخط، ليصب الزيت فوق نار التوتر بين شركاء الآستانة.
طهران كانت تمنِّي النفس وهي ترسم خارطة الطريق إلى القمة الثلاثية الموعودة بتحول حقيقي في الموقف التركي، يتقدمه تسليم أنقرة الأراضي التي تسيطر عليها في سوريا إلى قوات النظام، والتنسيق معه في الملف السوري، ودعم قوات الأسد في استرداد مناطق شرق سوريا من قوات سوريا الديمقراطية؛ بهدف حرمان الولايات المتحدة من أي سبب للبقاء هناك. لكن يبدو أن الأسد يحتاج إلى قوة دفع روسية إيرانية جديدة، تعيد له فرص الوجود في القمة بعد ارتكابه مجزرة دوما، ودخول مفاجئ للرئيس الأمريكي على الخط قلب الطاولة رأساً على عقب.
قمة طهران كان بين مهامها أن تضع سوريا على سكة الحل السياسي الذي تراه الدول الثلاث الضامنة الأنسب لها، بناء على رسائل وتصريحات رؤساء الدول المشاركة في قمة أنقرة. والبيان الختامي والتصريحات التي تلت لقاء العاصمة التركية كانت تصعِّد مع واشنطن دون أن تسميها، وتتحدث عن تفاهمات ثلاثية قد تقود إلى تفاهمات إقليمية أوسع، لكن ما لم يُؤخذ بعين الاعتبار أن النظام في سوريا سيقدم على تقديم الخدمة الكبيرة إلى واشنطن، لتتحرك من جديد باتجاه الرد على تحالف الآستانة.
في المؤتمر الصحفي الذي جمع روحاني وبوتين وأردوغان في أنقرة، أعلن الرئيس الإيراني "رسمياً عن نهاية الحرب بسوريا"، لكن الأسد بشطارته وحنكته فجّر كل الحسابات التي كانت العواصم الثلاث تعد لها، وتركها هي نفسها في مواجهة جديدة بعد عامين من الجهود تحت سقف الآستانة وخارجها.
كان الرهان على انسحاب أمريكي سريع من سوريا، لكنّ ترامب عاد وبدَّل رأيه عندما لم يجد من يقف إلى جانبه في هذا القرار، وعندما منحه بشار الأسد فرصة توسيع دائرة تحركه في المشهد السوري سياسياً وعسكرياً. الآن جاء دور فريق العمل الرئاسي الأمريكي الجديد ومع التغييرات التي حصلت مؤخراً في الإدارة الأمريكية ومجيء كل من جون بولتون في منصب مستشار الأمن القومي، ومايك بومبيو في منصب وزير الخارجية؛ فهل يسمح ترامب بانعقاد قمة تعد للإطاحة بنفوذ بلاده الإقليمي على هذا النحو، وهو الذي يرى في إيران الهدف الأول لكل خططه وطروحاته الإقليمية؟
إعلان أردوغان أن من نفّذ مجازر الغوطة ودوما ضد المدنيين سيدفع ثمناً يعني أن الهدنة التركية الروسية والتفاهمات التي رافقتها في الملف السوري باتت مهددة مع قرار إدارة البيت الأبيض التحرك بشكل أوسع على عكس ما أعلنه ترامب حول انسحاب أمريكي قريب من سوريا.
مشكلة أنقرة التي قررت الاقتراب أكثر فأكثر من موسكو وطهران في الملف السوري كانت منذ البداية تدرك أن الأسد موجود تحت الحماية الروسية الإيرانية؛ فكيف ستتصرف عندما تصعّد الدول العربية والغربية ضد مَن قررت التعاون والتنسيق معهما في الملف السوري؟
البنتاجون يضع أمام الرئيس الأمريكي ترامب، الذي بدّل جدول أعماله ولقاءاته وزياراته الخارجية، اثنين وعشرين هدفاً استراتيجياً تابعاً للنظام في سوريا من الممكن مهاجمتها. الواضح هنا أن الرسالة لا تعني نظام الأسد وحده، وأن الطريق إلى قمة طهران ليست سالكاً ومعبداً، وأن الكثير من التطورات والمفاجآت السياسية والعسكرية الإقليمية وتحديداً في المشهد السوري ستأخذ مكانها قبل تحديد موعد الاجتماع هذا إذا لم تُرجَأ إلى أجل غير مسمى.
واشنطن التي تستعد لتنفيذ هجماتها العسكرية ضد مواقع النظام تريد أن تقول للتفاهم الثلاثي في قمة أنقرة إنها لن تقبل بتكتل من هذا النوع يقف خلف بشار الأسد، وإنها لن تقبل بمحاولة قلب المعادلات في سوريا رغماً عنها، وإن علاقاتها مع شريكها المحلي، قوات سوريا الديمقراطية، لن تتغير في هذه الظروف، وإن شركاء غربيين وإقليميين لها سيبدأون في التحرك والتصعيد التدريجي ضد هذا التحالف الثلاثي الذي يحاول محاصرة القرارين السياسي والأمني في سوريا.
الطريق إلى قمة طهران الموعودة، حسب الرئيس الأمريكي، سيكون طويلاً ومعقداً وشائكاً، وهناك الكثير من المتغيرات السياسية والعسكرية في الملف السوري قد تنسف كلياً حسابات الشراكة التركية الروسية الإيرانية وخططها وأهدافها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة