ثمّة ثلاثة طرق ارتبكت الخُطى الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية وهي تحاول الاختيار بينها.. إنها واشنطن وموسكو وبروكسل.
هناك مائة وعشرون حركة انفصالية في أوروبا.. أغلب هذه الحركات محدود الوزن، وبعضها وصل إلى حدِّ إعلان الاستقلال.
لم يكن هذا الحال متصوّرًا قبل قليل، فقد كانت أوروبا تمضي في طريقها من "القارة" إلى "الدولة"، ومن "الاتحاد الأوروبي" إلى "الولايات المتحدة الأوروبية".. أو إلى "سويسرا الكبرى"، قبل سنوات ذكر "زبيجنيو بريجنسكي" مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق أن مسؤولين أوروبيين قالوا له: "إن أوروبا تزحف إلى الوحدة على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، وأن اللحظة التاريخية التي تعيشها أوروبا الآن هى لحظة ما قبل تأسيس دولة واحدة كبرى.. إنها تُشبه الوضع السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1776 و1789".
ثمّة ثلاثة طرق ارتبكت الخُطى الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية وهى تحاول الاختيار بينها.. إنها واشنطن وموسكو وبروكسل. أنْ تكون أوروبا حليفةً للولايات المتحدة، أو أن تكون حليفةً لروسيا، أو أنْ تختار الاستقلال فلا تتحالف جهة الشرق أو الغرب.
لم تكن كلمة "التحالف" هى الكلمة الوحيدة في وصف هذه الطرق.. بل كانت هناك كلمة أكثر استخدامًا: التبعيّة لأمريكا، أو التبعيّة لروسيا، أو الاستقلال عنهما.
إن طريق بروكسل لم يعد باهرًا كما كان، وأما طريق واشنطن فلا تريده واشنطن ذاتها. وسط ذلك تصعد أطروحة "الأوراسية" وتتراجع أطروحة "الأطلسية". لقد تراجع مفهوم "المجتمع الأوروبي" وتراجع كذلك "المجتمع الأطلسي".. ولربما حملت السنوات القادمة شيوع ذلك المصطلح "المجتمع الأوراسي".. من روسيا إلى البرتغال.
إن طريق أمريكا هو "الإطار الأطلسي"، وطريق روسيا هو "الإطار الأوراسي".. وطريق بروكسل هو الولايات المتحدة الأوروبية. لا تبدو الطرق الثلاثة ممهدة اليوم بالشكل الكافي، ففي كلِّ طريق تتزاحم العقبات من دون انقطاع.
لا يبدو طريق بروكسل رائعًا كما كان، فبينما أجرت اسكتلندا استفتاءاتٍ على الاستقلال، خرجت بريطانيا لاحقًا من الاتحاد الأوروبي، لتعود أفكار الانفصال في اسكتلندا وأيرلندا الشمالية إلى السطح من جديد.
يحاول رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أن يعزِّز طرحًا وحدويًّا عبر زيارات واستثمارات، وعبْر خطبٍ حماسيّة تتحدث عن "إعادة نهضة البلاد".. و"الإيمان ببريطانيا مرة ثانية".. و"النهوض مثل عملاق نائم". لكن بعض الدوائر البحثية ترى أن "تفكك بريطانيا" لايزال احتمالًا قائمًا، وأن عودة التحالف البريطاني الأمريكي في ظل "جونسون - ترامب"، وإن أدّى إلى ضعف أوروبا، فإنه لا يضمن قوة بريطانيا.
في كل دولة أوروبية تقريبًا توجد حركات انفصالية، وحسب تعبير سياسي أيرلندي لصحيفة "ايريش تايمز".. فإنّ "هناك نقاط ضعف كامنة في كل مكان في أوروبا".
وترى صحيفة "ديلي ميل" البريطانية أن "تحقيق رغبات الحركات الانفصالية يعيد أوروبا إلى العصور الوسطى".
يذهب أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد "مايكل بوسكين" إلى أن كلًّا من بريطانيا وإسبانيا وبلجيكا قابلة للتفكك، كما أن الولايات المتحدة هي الأخرى قابلة لذلك.. فهناك تفكير في تقسيم كاليفورنيا إلى ولايتيْن، وقد اقترح أحد الرأسماليين المغامرين التصويت على تقسيم كاليفورنيا إلى ست ولايات منفصلة. ويذكر "روبرت رايخ" في كتابه "اللامساواة للجميع" أن (1%) من الأمريكيين يسيطرون على (90%) من الثروة، وأن هذا يدفع البعض للغضب والتمرد والتفكير في الانفصال.
في عام 2012 تلقّى موقع البيت الأبيض رسالة تطالب باستقلال ولاية تكساس من قبل (125) ألف شخص، وفي عام 2014 وقّع (35) ألف شخص عريضة استقلال لولاية لاسكا، وحدث في آلاسكا أن رفع أحد الانفصاليين في مظاهرة لافتةً مكتوب عليها: "بيع آلاسكا إلى أمريكا باطل"!
الأمر ذاته في كندا.. حيث لاتزال حركة استقلال إقليم كيبيك شرق كندا، والذي تقع فيه مدينة مونتريال الشهيرة، حركة قوية وحاضرة، إن كندا بلد يعود تأسيسها الحديث إلى بريطانيين وفرنسيين، وفي عام 1960 طرح مثقفون من إقليم كيبيك مشروع استقلال، وقد أثرت عبارة "شارل ديجول" الشهيرة "عاشت كيبيك حرة.. عاش الكنديون الفرنسيون" في إلهام كثير من الانفصاليين الكيبيكيين بالبقاء على مواقفهم.
لا يبدو أن هناك احتمالا جادًّا لاستقلال إقليم كيبيك في المدى المنظور، ولايزال استقلال أية ولاية أمريكية في عداد المستحيل، كما أن معظم الحركات الانفصالية في أوروبا باستثناء بريطانيا وإسبانيا أضعف تنظيمًا وأقل شأنًا، لكن شيوع ثقافة التجزئة والانفصال، وصعود موجات الغضب على العواصم والسلطات السيادية.. قد جعل من ضفتي الأطلسي مكانًا أضعف من ذي قبل.
إن المجتمع الأوروبي وكذلك المجتمع الأمريكي والكندي لا يمكن وضعها جميعًا في سياق واحد.. هو المجتمع الأطلسي. بل لا يمكن وصف الشعوب الأوروبية نفسها بـ"المجتمع الأوروبي".
إذا ما أضيف لذلك موجة صعود اليمين المتطرف في أوروبا، واستمرار موجات الهجرة غير الشرعية، واحتمالات تسرب تنظيمات إرهابية وجماعات جريمة منظمة إليها.. كلّ ذلك يضع جانبًا كبيرًا من مستقبل القارة في دائرة المجهول.
لم تعد واشنطن تؤمن بالاتحاد الأوروبي، ولقد ذهب الرئيس دونالد ترامب إلى حدِّ التلويح بحلّ حلف الناتو نفسه، وحسب الأدميرال المتقاعد جيمس ستافريديس - المرشح وزيرًا للخارجية فيما لو كانت هيلاري كلينتون فازت بالرئاسة الأمريكية- فإن "مجرد مناقشة الانسحاب الأمريكي من الناتو، ناهيك عن حقيقة ذلك ستكون هدية القرن إلى فلاديمير بوتين".
تتواجد الصين في أوروبا على نحو متزايد، وتذهب (56%) من إجمالي الأموال التي تستثمرها الصين في العالم إلى أوروبا، ويتحدث البعض عن أهداف سياسية وراء رأس المال الصيني، وحسب تعبير موقع روسيا اليوم فإن "الصين تحاول أن تشتري أوروبا.. وأوروبا لا تمانع". ويذهب عدد من الأحزاب اليمينية الأوروبية إلى إعادة النظر في التحالف مع أمريكا، وبحث وقف الحرب الباردة مع روسيا، وقد عبّر نائبٌ في حزب البديل لألمانيا عن ذلك الطريق قائلًا في وضوح: إن إقامة منطقة تجارة حرة بين أوروبا وروسيا من فلاديفوستوك إلى لشبونة هو حلمي.. إن الآفاق الأوراسيّة أهم من التعاون العابر للأطلسي".
وهكذا.. فإن طريق بروكسل لم يعد باهرًا كما كان، وأما طريق واشنطن فلا تريده واشنطن ذاتها. وسط ذلك تصعد أطروحة "الأوراسية" وتتراجع أطروحة "الأطلسية". لقد تراجع مفهوم "المجتمع الأوروبي" وتراجع كذلك "المجتمع الأطلسي".. ولربما حملت السنوات القادمة شيوع ذلك المصطلح "المجتمع الأوراسي".. من روسيا إلى البرتغال.
يتغيّر العالم على نحوٍ مخيف.. ولا يغفر التاريخ لمن يفهم متأخرًا.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة