لا بد من التوقف عند بيان الأزهر المهم، الذي صدر أخيراً تحت عنوان: «إعلان الأزهر للتسامح والعيش المشترك»، في ختام مؤتمر شارك فيه كبار رجال الدين المسلمين والمسيحيين، تحت شعار: «الحرية والمواطنة... التنوع والتكامل». البيان بحد ذاته وثيقة مهمة للتعايش وفك ال
لا بد من التوقف عند بيان الأزهر المهم، الذي صدر أخيراً تحت عنوان: «إعلان الأزهر للتسامح والعيش المشترك»، في ختام مؤتمر شارك فيه كبار رجال الدين المسلمين والمسيحيين، تحت شعار: «الحرية والمواطنة... التنوع والتكامل». البيان بحد ذاته وثيقة مهمة للتعايش وفك الاشتباك بين المكونات الوطنية، لكنه سيظل وثيقة أخلاقية ما لم تتبنه الدولة وتمنحه قوة القانون.
أبرز ما في البيان، محاولته الاقتراب من جوهر الأزمة التي تضرب التعايش، وتنخر في البناء الوطني، وتؤسس للتنافر والتمزق... وهي تصنيف المواطنين الذين يُفترض أنهم متساوون أمام القانون، على أساس «أكثرية وأقلية»، فقد دعا البيان لعدم استخدام مصطلح «الأقليات» في جميع الأدبيات والثقافات والمناهج التعليمية، واستخدام مصطلح «المواطنين» بدلاً منه.
بيان الأزهر ربما يصلح أن يكون وثيقة للتعايش، ولكنه يحتاج إلى جعله واقعا حيا، للملمة جراح المهجرين المسيحيين وإشعارهم بالأمان والاطمئنان
وحذر شيخ الأزهر من بروز مصطلح «الأقليات»، قائلاً إنه على المثقفين أن يتنبهوا إلى خطورة استخدام مصطلح «الأقليات» الذي يحمل في طياته التمييز والانفصال، مضيفاً: «هذا المصطلح عاد استخدامه للتفرقة بين المسلمين والمسحيين؛ بل بين المسلمين أنفسهم». تعاني مصر، كما بعض الدول العربية، من معضلة حقيقية فيما يتصل بمشكلة الهويات وأزمتها، وغالباً ما يتم إغفال البحث عن الجذور الحقيقية للمشكلة، بافتعال مسببات ثانوية، أو ترحيل المشكلة إلى زمنٍ آخر... لكن هذا التغافل لم ينجح في إطفاء الجمر الذي يصطلي تحت الرماد، حتى أصبحنا اليوم أمام مشكلات حقيقية أدت في دول كالعراق وسوريا وليبيا، وقبلها يوغوسلافيا ودول البلقان، إلى احتراب واقتتال أهلي شكل أكبر الأخطار على مستقبل الدولة الوطنية. ظلّت مشكلات الهوية الدينية أو الطائفية، أو القومية، تمثل جزءاً من الفشل في تكوين دولة «الأمة»، الممثلة لكل أبنائها على اختلاف هوياتهم.
شعور أي مكون وطني بأنه غير قادر على التعبير عن هويته، يؤدي حكماً إلى شعوره بالتمييز ومن ثم بالعزلة. هذا وجه من المشكلة. ثمة وجوه أخرى، أحدها التهاون في حماية التنوع، بل الاستهانة بمهددات العيش المشترك، ففي سيناء، التي تبعد 300 كيلومتر فقط عن القاهرة، حيث أقيم مؤتمر الأزهر للتسامح والتعايش، يجري تهجير المسيحيين وقتلهم على الهوية، من مدينة العريش من قبل جماعات متشددة تنتمي إلى «داعش»، حيث تجاوزت أعداد النازحين مائة أسرة. مثل هذا المنظر الشائن شاهدناه في الموصل التي تعد أكبر مخزون للتنوع البشري في العالم العربي، هناك جرى تهجير الأقليات المسيحية والصابئة والشبك، بل تم سبي النساء الإيزيديات وبيعهن جواريَ في أسواق النخاسة.
على هامش الدولة العربية تسرب على مدى سنين الفكر الذي يمثل حاضنة لـ«داعش»، وهو في الحقيقة لا يستهدف الأقليات فقط، بل يستهدف تقويض الدولة والنظام عبر إثارة النعرات والحروب الأهلية، لعلنا نتذكر حادثة الشيخ الصوفي الضرير ذي التسعين عاماً، سليمان أبو حراز، الذي اختطفه مؤيدون لـ«داعش» في «ولاية سيناء»، في أكتوبر (تشرين الأول) 2016، وقام هذا التنظيم بإعدام الشيخ في حفل استعراض جمع له عدداً من الشباب ليشهدوا ذبح الشيخ أبو حراز ومعه شيخ صوفي آخر يبلغ من العمر 75 عاماً، ثم قام بتوزيع صور الإعدام عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
بيان الأزهر ربما يصلح أن يكون وثيقة للتعايش، ولكنه يحتاج إلى جعله واقعا حيا، للملمة جراح المهجرين وإشعارهم بالأمان والاطمئنان. لن يجدي التغاضي عن المشكلة، فهناك فكر خطير يهدد الدولة عبر شغلها بحروب جانبية، وعبر محاولته إشعال الحرائق بالضرب على عصب التعايش، وبخاصة أننا نعيش في عالم ما زالت الحدود فيه ترسم بالدماء، وفي منطقة لديها مخزون من الهويات المتنافرة القابعة في قوالب من الكراهية، فلا شيء أقوى من الكراهية في رسم حدود الهويات، ولا بد من كبح جماح هذا الفكر، حماية للدولة أولاً، ولمواطنيها ثانياً.
* نقلا عن صحيفة "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة