ما من مؤسسة صحفية أو إعلامية ألحقت العار بقيم النزاهة والحياد والموضوعية مثل الـ«بي بي سي». إنها مزيج من تاريخ أسود، وادعاء باطل، ومهنية مزيفة. لكنها لديها شيء واحد فقط، يمكنها أن تفخر به.
الافتراض القائل إنها مؤسسة تتبع تلك القيم، هو لا أكثر من أسطورة من الأساطير التي يتم تسويقها للأطفال، الذين لم يُسعفهم العمر بعد للنظر في سجلات التاريخ.
بالنسبة للخارج، فقد نشأت «بي بي سي» لتكون صوتا لوزارة المستعمرات البريطانية. وبالنسبة للداخل، فقد ظلت الحكومات المتعاقبة هي المالك الحصري لـ«حرية التعبير»، ما جعل الأمر أكذوبة من الأساس، سوف تظل تتأصل إلى درجة أن جورج أورويل، استقال من «بي بي سي» بعد عامين من العمل فيها ليكتب روايته الشهيرة «مزرعة الحيوان»، لا لشيء إلا لأن هذه المؤسسة كانت مزرعة للأكاذيب.
جون ريث، أول مدير عام لهيئة إذاعة «بي بي سي»، كان يريد تقديم «كل ما هو أفضل في كل من أقسام المعرفة البشرية والسعي والإنجاز»، قائلا إن «الحفاظ على نبرة أخلاقية عالية أمر في غاية الأهمية»، إلا أنه في مواجهة النزاعات السياسية المحلية التي نشبت حول الدور الذي تؤديه، كتب يقول في العام 1926: «إن حكومة ستانلي بالدوين أرادت أن تكون قادرة على القول إنها لم تستولِ على بي بي سي، لكنها تعرف أنها يمكنها الوثوق بنا ألا نكون محايدين حقًا».
«النبرة الأخلاقية العالية» سقطت منذ ذلك الوقت. لكنها ظلت إحدى أدوات النفاق المألوف. حتى إن تمثال أورويل خارج مقر الإذاعة ظل يحمل كلمات من مقدمته لـ«مزرعة الحيوان»، تقول: «إذا كانت الحرية تعني أي شيء على الإطلاق، فهذا يعني الحق في إخبار الناس بما لا يريدون سماعه». وذلك بينما كانت الإذاعة لا تقدم للناس إلا ما تريد الحكومة سماعه، انطلاقا من واقع الرقابة التي ظلت تفرضها على البث.
تعرف «بي بي سي» على أنها «محايدة»، لكنها أكذوبة لم تصمد منذ بدايات تأسيسها؛ فهي لطالما اتخذت موقفا منحازا للحكومة في النزاعات السياسية الداخلية، ولم تكن طرفا محايدا فيها على الإطلاق، مثل الإضراب الشامل في العام 1926، والذي كان كافيا بالنسبة لتلك البدايات، حيث وصف مؤيدو الإضراب الإذاعة بأنها BFCـ British Falsehood Corporation أو «شركة الأكاذيب البريطانية»، إضافة إلى موقفها من «بريكست» والذي يعد خير دليل معاصر على انحيازها للحكومة.
هذا التاريخ جزء من هوية «بي بي سي»، ما دفع جان سيتون أستاذ تاريخ الإعلام والمؤرخ الرسمي للإذاعة إلى وصفها بأنها «اختراع الدعاية الحديثة في شكلها البريطاني». فإذا كانت تداعيات انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ما تزال تلقي بأعباء ثقيلة على اقتصاد البلاد إلى اليوم، فذلك لأن «بي بي سي» لعبت دورا رئيسيا في فوز الاستفتاء الذي نظم في العام 2016، تحت تأثير التيار اليميني المتطرف في حزب المحافظين.
ذلك الفوز تحقق بفارق ضئيل للغاية. وكانت تأثيرات انحياز «بي بي سي» سببا رئيسيا فيه عندما آثرت الترويج للأكاذيب التي أطلقها بوريس جونسون عن التمويلات الضخمة التي تدفعها بريطانيا للاتحاد والتي يمكن استعادتها، فضلا عن الأوهام المتعلقة بالعقود التجارية الحرة مع دول العالم، ومنها «اتفاقية التجارة الحرة» مع الولايات المتحدة التي لم تتحقق أبدا.
ما ظل غير معروف حتى العام 1985 هو أن «المكتب الخامس» في جهاز المخابرات البريطانية كان هو الذي يُشرف على التعيينات في «بي بي سي» منذ الثلاثينيات وحتى أواخر التسعينيات، وربما إلى اليوم.
في أغسطس/آب من ذلك العام، كشف ديفيد لي وبول لاشمر في مقال لصحيفة «ذا أوبزرفر» أن جهاز MI5 كان يفحص التعيينات ويدير العمليات من الغرفة رقم 105 في مقر الإذاعة. وكانت هناك قائمة سوداء تشمل المنتمين للحزب الشيوعي، وحزب العمال الاشتراكي، وحزب العمال الثوري، وحزب الجبهة الوطنية اليميني والحزب الوطني البريطاني، وغيرها من التنظيمات على جبهتي اليمين واليسار في آن معا. وظل مديرو «بي بي سي» على صلة مباشرة بالجهاز لـ«تبادل المعلومات»، وخاصة لفحص المتقدمين إلى الوظائف بحسب آرائهم السياسية.
يتم تمويل «بي بي سي» المحلية من «ضرائب التلفزيون» التي تُفرض على كل منزل في بريطانيا. حتى ولو لم يكن فيها تلفزيون، أو حتى لو ظل مغلقا طوال الوقت، أو حتى لو اختار المشاهدون متابعة محطات خاصة. أما خدمة «بي بي سي» العالمية فإنها تُموّل من قبل وزارة الخارجية والكومنولث لتدافع عن مصالح بريطانيا في الخارج.
ما كان صوتا لجهاز المخابرات في الداخل، كان صوتا لسلطة الاستعمار في الخارج. وظل يزعم أنه «محايد»، لأجل أن يصنع واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ الصحافة والإعلام على الكرة الأرضية.
تطلق هذه المؤسسة غازاتها السامة، ليس لأنها ظلت تنطق بلسان وعد بلفور بالنسبة للقضية الفلسطينية، وليس لأنها حاربت إلى جانب الغزاة في العدوان الثلاثي ضد مصر، وليس لأنها احتفلت بهزيمة الخامس من يونيو/حزيران العربية في العام 1967، وليس لأنها ظلت تدعم إسرائيل في كل ما ظلت ترتكبه من جرائم ضد الفلسطينيين فحسب، لكن لأنها ظلت تفعل ذلك تحت ستار «الحياد» و«الموضوعية» و«المهنية» المزيفة.
تبنت هذه المؤسسة أكذوبة «امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل» لأجل أن تبرر تورط بريطانيا في غزو العراق في العام 2003. وعندما أجرى أندرو غاليغان، مدير الأخبار في «بي بي سي»، مقابلة خاصة مع ديفيد كيلي، أكبر عالم نووي بريطاني ورئيس فريق المفتشين البريطانيين، ونقل عنه قوله إن العراق لا يملك أسلحة دمار شامل، لم يفعل مجلس إدارة «بي بي سي» سوى أنه قرر طرد غاليغان من وظيفته، بزعم أنه «لم يأخذ المعلومات من مصدرين». وأي «مصدرين» أهم من ذلك المصدر الواحد، وهو في منصبه ذاك؟ لكن كان يجب للأكذوبة أن تنطلي، وأن يتم الغزو، و... يموت كيلي نفسه مغدورا.
لا تستغرب أن تطال بعض أنماط الغازات السامة دولة الإمارات بهزيل من الأكاذيب. لا توجد مشكلة في ذلك. هذا البلد أكبر وأقوى من أن يتأثر بادعاءات مثيرة للضحك. لكن يظل من حق المرء أن يستغرب كيف يمكن للوقاحة أن تستمر حتى عندما يتضح أن الأكاذيب مجرد أكاذيب؟
لا توجد مشكلة في أن تدافع مؤسسة إعلامية عن مصالح بلادها الخارجية، كما لا توجد مشكلة في أن تكون المؤسسة صوتا لحزب دون غيره. المشكلة تكمن في ممارسة ذلك بالادعاء الباطل للنزاهة والحياد وبركوب الموجة «الأخلاقية العالية»، وهي منها براء منذ ساعة التأسيس إلى اليوم.
هناك شيء واحد، على أي حال، تستطيع «بي بي سي» أن تفخر به، هو أن تجربة سنتين من العمل فيها، منحت جورج أورويل الفرصة ليتعرف على المزرعة ويكتب عن حيواناتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة