ستظل الرؤى والمبادرات التي تُطرح أمريكيا وأوروبيا وبريطانيا وعربيا لحل أزمة غزة في إطارها، رغم تركيزها على الواقع الراهن وصولا إلى حل الدولتين وليس فقط وقف إطلاق النار.
الملاحظ أن المبادرة الأوروبية ثم البريطانية تركز على حل شامل لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتصميم إطار لخطة سلام خلال عام، وإعلان دولة فلسطينية مستقلة، بالإضافة إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي، وضمان الأمن على المدى الطويل في المنطقة، ومشاركة دول مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومصر والأردن والسعودية وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة، وتمثيل قطاع غزة والضفة الغربية من قبل السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، بدلاً من حركة حماس، والتي ما زال الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يصنفانها منظمة إرهابية.
ورغم الطرح الأوروبي فإنه لا يوجد إجماع أوروبي على الدعوة إلى وقف إطلاق النار بشكل كامل، فعلى سبيل المثال ترى ألمانيا أن هذه الدعوة الفورية يمكن أن تتعارض مع حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
في المقابل يتركز الطرح العربي على خطة شاملة تتضمن إنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، وطرح مبادرة بشأن اليوم التالي للحرب، بدعم من الولايات المتحدة. وتتضمن الخطة دفع الحكومة الإسرائيلية إلى العمل على إقامة دولة فلسطينية.
ولأن الطرح يتطلب اعتراف السعودية بإسرائيل، فإنها تعكس الاتفاق الذي كانت إسرائيل والولايات المتحدة على وشك التوقيع عليه مع الرياض قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أما الطرح الأمريكي فإنه يركز على خيار حل الدولتين في إطار تشكيل قوة متعددة الجنسيات لحفظ النظام، ويمكن أن تشمل دولا أوروبية وعربية، رغم أنه لا توجد دولة أبدت رسميا استعدادها للمشاركة في مثل تلك القوة.
وعلى الأرجح لن يرغب الرئيس الأمريكي جو بايدن، في التورط في عمل عسكري مباشر في صراع جديد بينما يسعى لإعادة انتخابه رئيسا في 2024، والمقترح المقبول نشر قوة تدعمها الأمم المتحدة في قطاع غزة، إما على شكل قوة حفظ سلام رسمية تابعة للأمم المتحدة مثل الموجودة على الحدود بين إسرائيل ولبنان، وإما قوة متعددة الجنسيات بموافقة الأمم المتحدة.
ومما يعقد الأمور استمرار معارضة إسرائيل أي دور أمني للأمم المتحدة، مع الوضع في الاعتبار أنه في حالة التمكن من تجريد حماس من سلطتها القوية ونزع السلاح في قطاع غزة -وهو أمر مستبعد- فإن ذلك قد يفتح الطريق أمام تشكيل إدارة مؤقتة بحكومة تكنوقراط، حيث من اللافت أن إسرائيل بالفعل في حالة من التوتر مع واشنطن بشأن آفاق الحرب الإسرائيلية، وخطط تل أبيب بشأن مستقبل القطاع بما في ذلك رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إقامة دولة فلسطينية، في أي سيناريو بعد انتهاء الحرب، بما في ذلك خيار حل الدولتين، مع الإقرار بأن إسرائيل يجب أن تكون لها السيطرة الأمنية على كامل الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن.
وقد تزامن ذلك مع بطء وتيرة الهجوم العسكري على غزة، وتصاعد حملة الانتقادات الدولية، بما في ذلك اتهامات بالإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، والتي لا تزال تبحث في مضمون القرار النهائي، رغم ما أصدرته من مطالبات وتدابير مؤخرا.
إن طرح هذه المبادرات، وغيرها يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية للتعامل، وتوافقات سياسية واستراتيجية مع الأطراف المعنية، مما يتطلب التركيز على الجانب الإسرائيلي، وفي ظل ما يردده في إطار المواجهة الراهنة والممتدة والتي ترتبط بموقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي لا يرغب في وقف إطلاق النار، لكن في تمديد أمد الصراع لتحقيق مكاسب سياسية، لأنه يمر بوضع متأزم، لاحتمال خضوعه للمحاكمة والمحاسبة على عدم تحقيق أهداف الحرب، إلى جانب قضايا فساد ما زال ملاحقًا فيها.
إن استمرار الحرب في غزة لا يصب في مصلحة أي جهة، باستثناء نتنياهو وحكومته التي لا تزال ترفض شروط حركة حماس لإبرام صفقة يطلق بموجبها سراح الرهائن الإسرائيليين، تشمل عدة نقاط؛ أهمها: وقف الحرب، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، وتوفير ضمانات دولية للحفاظ على حكم حماس بالقطاع، وعدم ملاحقة قيادات حركة حماس، خاصة وأن هدفي إسرائيل المحددين من وراء الحرب والمتمثلين في تدمير حركة حماس وإطلاق المخطوفين الإسرائيليين المحتجزين لديها، غير متوافقين.
ومن ثم فإنه -من غير المرجح- إتمام استعادة 130 مخطوفاً إسرائيلياً تحتجزهم الحركة في القطاع إلا من خلال الطرق الدبلوماسية، كذلك أثبت سير المواجهات في نطاق المواجهة الدائرة، أنها لن تسفر عن تحقيق الأهداف التي وُضعت لها، وفي مقدمتها هدف تحقيق انتصار كامل على حماس، باعتباره هدفا غير واقعي، خاصة في ظل تعمق الخلافات في قيادة الحكومة الإسرائيلية، ولا سيما في مجلس الحرب.
إن الإجماع على استمرار الحرب ضد غزة، وربما بالتوازي مع الاتفاق على تغيير شكلها من خلال إطلاق ما يوصف بأنها المرحلة الثالثة منها، ما زال قائما بين جميع مكونات الائتلاف الراهن، والرأي العام الإسرائيلي، والمعارضة، والمؤسسة الأمنية، ما يعني بالضرورة أن إسرائيل لن تعود إلى استراتيجية الهدوء مقابل الهدوء، ما يشير إلى أن الانسحاب العسكري من القطاع غزة لم يعُد قائماً حتى تحقيق هدف الحرب المُعلن إسرائيلياً القضاء على حركة حماس، وما يجعل من المرحلة الراهنة هي مرحلة إعادة احتلال بالفعل لمناطق شمال القطاع ثم الانتقال إلى المرحلة الجارية في الوقت الراهن فيها دون الوسط والجنوب.
وفي هذه المرحلة -كما واضح من مسار العمليات في عمق القطاع- سيتم الاعتماد الرئيسي على المعلومات الأمنية الاستخباراتية، وتدمير البنية التحتية العسكرية لحركة حماس، والسيطرة الأمنية والعسكرية التي تتطلب تواجداً عسكرياً دائماً، بما يشمل إقامة حزام عازل على طول الحدود مع القطاع، ووضع نقاط عسكرية ثابتة وسيطرة إسرائيلية على محور صلاح الدين، ما يعني إعادة احتلال القطاع من جديد، وإيجاد واقع عسكري أمني-سياسي شبيه بواقع الضفة الغربية.
لهذا فإن ما يُطرح من مبادرات -أيًا كان الطرف الذي يطرح ويروج من رؤى أو أفكار- فعليه أن يراعي ما يُطرح من الجانب الآخر من تصورات خاصة وأن الأمر تجاوز العمل العسكري الحقيقي إلى تحديد أن مسألة إعادة احتلال قطاع غزة ليست محكومة فقط باعتبارات إسرائيل العسكرية، وإنما باعتبارات أيديولوجية وسياسية لليمين الصهيوني الذي يطالب علانية، وبصورة لافتة بضرورة إعادة احتلال القطاع، وتعزيز المطالبات بإعادة الاستيطان والعودة إلى الواقع الذي كان قائماً قبل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع العام 2005.
ومن ثم فإن استمرار طرح المبادرات يجب أن يكون مرتبطا أيضا بصورة أو بأخرى بتطورات عدة ومهمة ميدانيا واستراتيجيا، وفي ظل الانتقال تدريجيا إلى تكريس استراتيجية الحسم من خلال العمل في منطقة وسط - جنوب خان يونس، وفي نهاية المواجهات المخطط لها الاتجاه على مدينة رفح جنوباً.
إن العمل على وقف إطلاق النار، والانتقال إلى مسار سياسي سيكون مرهونا بتوافر الإرادة الحقيقية للأطراف الرئيسية، إضافة إلى طرفي المعادلة، خاصة مع تزايد الخسائر على الجانبين، بدليل أن إجمالي الإنفاق على المواجهات في قطاع غزة وتوابعه سيصل إلى 240 مليار شيكل، مع نهاية العام الجاري، في رقم قد يرتفع إذا امتدت الحرب إلى فترة أطول.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة