"بعلم الوصول".. كتاب يقتفي جماليات الرسائل المنسية
كتاب جديد يستعرض فيه مؤلفه أحمد خير الدين رحلة شغفه بالرسائل التي قادته لجمع آلاف الرسائل في مسار يجمع بين الكتابة الأدبية والاستكشاف.
شغفَ شخصي تفتح مع بواكير الطفولة، وغُربة الأب، ووصال عبر الأحرف وصناديق البريد، شغف قاد الكاتب المصري أحمد خير الدين عبر رحلة اقتناء دؤوبة للرسائل القديمة، التي فرّت من أصحابها، بعدما رحلوا، وتبدلت عناوينهم، فصارت خطوطهم أطول من أعمارهم.
رحلة خير الدين امتدت بين أسواق بيع الأرشيف والكتب القديمة والمواد التراثية في مصر، حيث تتكدس الرسائل المجهولة المُكتنزة بالمشاعر والذكريات وكذلك بفصول التاريخ.
في كتاب "بعلم الوصول"، الصادر عن دار "الشروق" المصرية مؤخرا، يتذكر المؤلف صورته كطفل كان يتفنن في كتابة الخطابات لوالده، يسترسل في حكيه مُجربا الخطوط التي تعلمها من معلم الخط، تارة بالنسخ وأخرى بالرقعة.
يقول خير الدين: "أحكي عما جرى في القرية، ورحلاتي مع جدي، ومسابقات الطالب المثالي، وما قلته في طابور الصباح، وإعجاب أصدقائي بالملابس والأقلام والمسطرة التي أرسلها لي في المرة الماضية، أطلب هدية جديدة لي ولأختي" ، يتقدم عُمر الطفل وتُزاحم شرائط الكاسيت الخطابات، ثم تتراجع بعد ظهور الهواتف، وتختفي تقريبا مع غزو الموبايل حياتنا.
شبّ الطفل بهذه الذاكرة الكتابية، وملمس أظرف الرسائل، والبوح الذي يعبر به البريد إلى قارة أخرى حيث يستقر والده، ولم يكن يتخيل أن هذا الشغف سيصل به لإصدار كتاب "بعلم الوصول"، وهو عنوان يُحيل القارئ لواحد من مصطلحات عالم البريد الشهيرة.
يذهب الكاتب المصري أحمد خير الدين، في كتابه الذي يقع في 241 صفحة، لما هو أبعد من مشاعره الشخصية وعلاقته الخاصة بالرسائل، التي كانت بالنسبة له ومضة لها أثر كبير، فبعد أن قادته الصدفة لرسائل مهجورة لأحد الأشخاص، بدأ يكتشف في نفسه فضولا ما للعبور إلى حيوات مجهولة له ولغيره.
يقول في الكتاب: "لم أكن عباس البوسطجي في قصة يحيى حقي، لكني شاركته الهوس بفتح الرسائل، وأقتفي أثر اللغة وتطورها بمرور الأيام، وأتأثر بتعبيرات أصحاب الخطابات عن مشاعرهم في علاقات الحب والأخوة والصداقة، ويمتد بي الهوس من تاجر إلى آخر ومن رسالة إلى آلاف".
يسأل المؤلف نفسه: "ماذا بعد؟ حتى أن باعة المقتنيات القديمة الذين صاروا يعرفونه جيدا من كثرة تردده عليهم، شاركوه نفس السؤال: لماذا تجمع كل هذا؟ لم يكن يتخيل إلى أين سيقوده الأمر، كان مدفوعا أكثر بالفضول والسعادة بأنه بين كل عشرة خطابات مثلا قد يعثر على واحد به واقعة أو قصة مغرية، لكن الأمر تطور معه لاكتشاف أماكن مختلفة وحكايات جديدة، ورسائل مترابطة أو متفرقة تحكي مصائر أو تصف مشاعر أو أخرى تتركك بسؤال وخيال عما قد يحدث لأبطال هذه الحكايات وأصحاب الخطابات".
يرتبط القارئ في الكتاب بأبطال الخطابات التي استعرضها المؤلف، المُرسلين والمُرسل إليهم، منهم ماما أليس وبابا مراد، إحسان، سناء، عادل، تقرأ بالخطابات اعتذارات عن سوء الخط، وأشواق للقاء، وأحيانا تهديدات باسم الحب، وتبادل لكلمات أغانٍ لعبد الحليم حافظ وأم كلثوم، وأحيانا أخرى شجون ووحدة.
امتدت رحلة بحث خير الدين عن الخطابات لأكثر من عامين، يصفها في كتابه "لم أستطع منع نفسي بالطبع من القراءة والفرز خلال هذه المرحلة، فتداخلت العمليتان ووجدت نفسي عند نقطة معينة أواجه خوفا وقلقا على امتداد الرحلة، فكل أسبوع كان يحمل لي رسائل جديدة، بينها ما أبحث عنه، وكثير منها يفتح مساحات جديدة وينقلني إلى مفاجآت أخرى"، وإذا أضفنا مرحلة التصنيف الزمني للرسائل بعد القراءة والفرز ربما يتخيل القارئ أن صاحب الكتاب كان كمن وقع على كنز كلما امتدت يده أكثر خرج بتحف جديدة وحكايات مثيرة وأجمل.
وخصص الكاتب فصلا أخيرا أطلق عليه "رسالة أخيرة" تحدث فيها باستفاضة عن هوامشه التي رصدها بصيغة أقرب لتحليل المضمون في المواد البحثية، وكذلك اكتشافاته التي وصفها بـ"المُحزنة" يقول: "إلى جانب المتعة في قراءة الأشكال التي كان الناس يعبرون بها عن مشاعرهم وأفكارهم كان فضول آخر يتنازع هذه المتعة عندي لمعرفة من أين جاءت تلك الرسائل ولماذا فرط فيها أصحابها..من هم.. وكيف حالهم الآن؟ هل العناوين المتروكة على الأظرف ما زالت كما هي؟ لتبدأ رحلتي"، وهنا عبر عن حزنه لأن معظم هذه العناوين لمنازل هدمت واستقرت بدلا منها مبان أخرى، أما الخطابات فقد كانت من نصيب التجار الذين يشترون ما تبقى من أصحابها.
أضاف المؤلف هوامش لشرح الظروف الزمانية أو المكانية أو للسياق التاريخي الذي تمر به الخطابات، ويعترف في نهاية الكتاب أنه قام بتغيير أسماء أصحاب الخطابات التي قام بنشرها واستخدم لهم أسماء بديلة.
ويختتم خير الدين الكتاب من حيث بدأه، كمن صنع دائرة لا تنتهي، تتلاشى داخلها الحدود بين الخاص والعام، فيعود وسط آلاف الرسائل التي غرق داخلها، للبحث عن رسائل والده من جديد، يقول في الكتاب: "حين انتهيت دفعني ذلك إلى البحث مجددا عما تبقى من رسائل والدي لنا ورسائلنا له، لأكتشف ما نسيته من أفكارنا وطرق تعبيرنا حينها، والأسباب التي جعلتها باقية في ذاكرتي بهذا الرسوخ، لم أجد سوى شرائط الكاسيت وبعض الصور فقط، وفكرت حينها في أكثر ما شغلني في هذه الرحلة.. كيف تستقر شكوى أو قبلة من أحمر شفاه أو صورة أو كلمات رجاء، ظن أصحابها أن مصائرهم ومستقبلهم معلق بوصولها إلى الطرف الآخر في مخزن قديم، تنتظر فأرا جائعا أو فضوليا مثلي لتستقر معه.. أين تستقر رسائلي وأنا طفل الآن؟".
ويبدو أن كنز الرسائل الذي لا ينضب سيفتح نقاشا حول إصدار جزء ثانٍ لـ"بعلم الوصول"، بعد أن نجح الكتاب في اجتذاب الكثيرين ممن قاموا بإرسال خطابات عائلية قديمة إلى صاحب الكتاب أحمد خير الدين للتصرف بها، والتي ربما كذلك تكون نواة لمعرض أو متحف للرسائل.
aXA6IDMuMTQ1LjMzLjI0NCA=
جزيرة ام اند امز