قبل شهور نشرت في هذا المقام مقالا بعنوان "الطريق إلى الجحيم"، متأثرا بشواهد امتلأ بها شهر يوليو من حرائق وفيضانات وارتفاع غير معهود في حرارة مناطق طالما عاشت في محيط من الجليد.
بات الموضوع ذائعا بشدة في الدوائر السياسية العالمية، مرة باعتباره جزءا من الصراع السياسي داخل الدول، ومرة أخرى للخلاف بين الدول، ومرة ثالثة بين العلماء والباحثين، وبعضهم يعتقد أن الظاهرة استفحلت بحيث لم يعد لها من حل، وبعضهم الآخر يرى أن جهودا دولية لتنفيذ اتفاقية باريس الخاصة بالمناخ يمكنها خفض درجة الحرارة قبل منتصف هذا القرن بالقدر الذي يكفل استمرار الحياة على كوكب الأرض.
القضية على تعقيدها الشديد تبدو بسيطة، وهي أن الشمس -النجم الذي يتبعه الكوكب- لم تعد المصدر الوحيد للدفء والحرارة، وإنما الإنسان هو الآخر بات مشاركا في تحقيق ذلك من خلال أنشطته الصناعية، وحركته واستخداماتها في الحل والترحال.
ملايين السيارات والطائرات والسفن والمصانع حرقت ملايين أخرى من أطنان الطاقة الأحفورية التي تصاعدت حتى مست غلاف الأرض واخترقته، بالقدر الذي نفذ منه قدر أكبر من الحرارة، وكلها متجمعة أثرت سلبيا في التوازن الأرضي بين اليابس والماء بما فعلته في إسالة جليد القطب، الذي مثل في التاريخ دور المحافظ على تبريد درجات الحرارة العالية.
يقول العلماء إن ارتفاع درجات الحرارة يتسبب في ذوبان الأنهار الجليدية حول الكوكب، وقد تكون ثاني أكبر كتلة جليدية في العالم قد تجاوز الآن نقطة اللا عودة.
ووفقًا لدراسة جديدة نُشرت في مجلة Communications Earth & Environment فقدت الأنهار الجليدية في جرينلاند الكثير من جليدها، لدرجة أن تساقط الثلوج السنوي لا يكفي لتجديدها.
ارتفعت مستويات المياه بالفيضانات، وباتت هناك دول جزر معرضة للغرق.
قال محمد نشيد، الرئيس السابق لجزر المالديف، الذي يمثل نحو 50 دولة معرضة لتأثيرات تغير المناخ: "نحن ندفع بأرواحنا من أجل الكربون المنبعث من شخص آخر".
وقال إن توقعات اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة ستكون "مدمرة" للأمة، ما يضعها على "حافة الانقراض".
ووفقًا لأحدث تقرير للجنة، ستصبح موجات الحرارة والأمطار الغزيرة والجفاف أكثر شيوعًا وتطرفًا، وقد وصفها الأمين العام للأمم المتحدة بأنها "ضوء أحمر للإنسانية".
التغيرات المناخية جزء أساسي من المعركة السياسية داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
الجمهوريون، خاصة جناح الرئيس السابق دونالد ترامب، يرون أنه لا توجد قضية مناخية، وأن كوكب الأرض قد تعرض على مدى تاريخه الطويل لنوبات حارقة من ارتفاع درجات الحرارة، ونوبات أخرى عُرفت بالعصر الجليدي، وأن ما يحدث الآن ما هو إلا تعبير عن هذه التقلبات.
في محاضرة استمعت لها في أمريكا قصّ المحاضر المنتمي إلى هذا التيار الجمهوري قصة انتهاء الحضارة الفرعونية المصرية، استنادا إلى أن أفولها حدث بسبب التغيرات المناخية، التي ألمت بالكوكب قبل ألفين من الأعوام، وأدت إلى جفاف فرع للنيل كان ممتدا مع فروعها من خلال الصحراء الغربية.
المعضلة مع هذه الأقوال ليست فقط أنه لا يوجد كثير مما يؤيدها، وإنما مضافا إلى ذلك إلحاح الضرورة في التعامل مع أزمة المناخ الآن وليس غدا.
قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن الأضرار الناجمة عن الكوارث الطبيعية في الولايات المتحدة هذا العام ستتجاوز رقما قياسيا يقدر بـ100 مليار دولار، وأضاف في برنامجه المقترح لتحديث البنية التحتية الأمريكية وجهود الإدارة الأخرى لمكافحة تغير المناخ وزيادة الاستعداد لكوارث مماثلة في المستقبل: "الكوارث الطبيعية كلفت أمريكا 99 مليار دولار العام الماضي.. وفي هذا العام سيتم تحطيم هذا الرقم القياسي، الذي سيبلغ أكثر من 100 مليار دولار".
وأوضح "بايدن" أن "الكوارث الطبيعية التي نشهدها ستحدث بوتيرة أقوى وستزداد أكثر".
وقال "بايدن"، بعد جولة في المختبر الوطني للطاقة المتجددة بولاية كولورادو: "علينا القيام بالاستثمارات التي تبطئ إسهامنا في تغير المناخ، اليوم، وليس غدًا"، مضيفا لما سبق أن أحداث التقلبات الجوية الأخيرة "ستأتي بمزيد من الضراوة".
ولعله هنا تحديدا يكمن سبب إضافي من الخلافات وحسابات التكلفة على أزمة المناخ التي لا يأتي الخلاف فيها حول أسبابها فقط، وإلحاحها فحسب، وإنما في تكلفة التعامل معها خاصة من قبل الدول النامية، التي تعتمد في صناعاتها على كثير من آلات الاحتراق والصناعات المستهلكة للطاقة الأحفورية.
استعداد القطاع الخاص للتعامل مع الأزمة مطروح كمدخل لحل مشكلة مستعصية، حينما تعهد جيف بيزوس بمليار دولار من تعهده الخيري المناخي البالغ 10 مليارات دولار لحماية التنوع البيولوجي والغابات الموفرة للكربون في جبال الأنديز وحوض الكونغو والمحيط الهادئ الاستوائي.
بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من قيادته لشركة أمازون، التي تتمتع ببصمة كربونية واسعة ومتنامية، يبدو أن "بيزوس" عازم على تكوين هوية جديدة بصفته خبيرًا في حماية البيئة، وربما أكثر ممول عالمي كرمًا في مكافحة تغير المناخ.
والحقيقة أن أمازون تحركت لتقليل اعتمادها على الوقود الأحفوري، مثل الالتزام بتزويد سياراتها بالكهرباء، وقد جنّدت عشرات الشركات للتوقيع على تعهد المناخ، وهو التزام الشركة بالوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2040.
ولكن في الوقت الحالي، تظل "أمازون" تعتمد على أساطيل ضخمة من مركبات التوصيل الملوثة، والتعبئة المهدرة، وحتى أسطول جديد من الطائرات التي تعمل بالوقود النفاث لمواصلة توصيل الأشياء بسرعة إلى المتسوقين، الذين لا يتحلون بالصبر عبر الإنترنت.
ورغم أن كل ذلك يشير إلى زيادة الاهتمام بالأزمة ومحاولة البحث عن حل لها، فإنه ليس متصورا التوصل إلى حل دون تعاون دولي شامل لبعث وتطبيق اتفاقية باريس للمناخ، بحيث يمكن الالتزام بتحقيق أهداف الاتفاقية في خفض حرارة العالم بدرجة ونصف.
إنه اختبار كبير للإنسانية ممثلة في مؤتمر جلاسكو، يتجاوز كل ما واجهته من قبل من أزمات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة