أثار إعلان رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، عدم خوضه للانتخابات المقبلة، الكثير من التساؤلات في الوسط السياسي.
ولم يكن هذا القرار بعيداً عن تأثير ضغوطات الكتل والقوى المهيمنة من جهة، وعدم إبداء أي تكتل أو حزب أو تيار انتخابي استعداده لدعمه من جهة أخرى. إضافة إلى أن حكومته لم تكن في حقيقة الأمر سوى حكومة خدمات أنقذت القوى السياسية الفاشلة في عهد رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، الذي أوصل العملية السياسية إلى طريق مسدود.
لذا لم تأتِ حكومته بقوة سياسية معينة، ولم تسعَ إلى التنافس الانتخابي من أجل تحقيق أهداف سياسية، بسبب عدم وجود دعم أو سند في الوقت الذي توجد فيه طبقة سياسية كبيرة مهيمنة على المشهد السياسي من وزراء وكبار موظفين، يستغلون إمكانات الدولة في توطيد أحزابهم وكتلهم من أجل تحقيق أهدافها في الانتخابات المقبلة وهذا ما حذر منه الكاظمي، لكن لا أحد من الطبقة السياسية التي تحكم من وراء الكواليس بمليشياتها وأموالها وسطوتها مستعد لسماع تحذيراته.
لا يدعو هذا القرار إلى العجب، لأن الأمر - أي عدم ترشح الكاظمي نفسه للانتخابات - يعود إلى شروط مسبقة فُرضت عليه من قبل القوى السياسية التي وافقت على تكليفه برئاسة الحكومة في مايو الماضي 2020. وهذا سبب جوهري في عدم ترشحه للانتخابات جرياً على مبدأ اتباع قواعد اللعبة، لأن القوى السياسية الكبيرة أكدت شروطها ووافق عليها الكاظمي.
لم تقتصر عدم المشاركة في الانتخابات المقبلة على الكاظمي فقط، بل على بقية أعضاء فريقه والمقربين إليه، ومنهم "المرحلة" و"الازدهار"، وهما تياران صغيران لا يمتلكان القوة الكافية أمام الكتل الكبيرة.
يجد الكاظمي والمقربون منه أنفسهم أمام 27 تحالفاً كبيراً ينطوي على 235 حزباً سياسياً في السباق الانتخابي المقبل، ويمكن إيجازها على الشكل التالي: 5 تحالفات شيعية قوية، و3 قوى سنيّة متصارعة، وائتلافات كردية منقسمة تتحكم فيها مصالح الإقليم.
تؤكد هذه الأحزاب والتكتلات على تخندق التنوعات العرقية والدينية والمذهبية والمكوناتية التي جاءت بعد عام 2003، وهي ما تُسبب عدم استقرار الأوضاع في العراق إلى آجال مقبلة. تنقسم التحالفات الشيعية بين التكتلات المهيمنة التالية: "سائرون 54 مقعدا من أصل 329" و"الفتح 47 مقعدا"، والنصر"42 مقعدا" و"دولة القانون 26 مقعدا" وتيار الحكمة "19 مقعدا" و"ائتلاف الوطنية 26 مقعدا"، والبقية تتوزع على السنّة والأكراد، إضافة إلى أحزاب منبثقة عن الحراك السلمي تسعى لخوض تجربة الانتخابات المقبلة.
من المعروف أن الكاظمي لم يسعَ إلى تشكيل حزب سياسي، فيما عدا لجوئه إلى تيارات وطنية من أجل الحصول على دعمها أمام غول التكتلات السياسية الكبيرة، التي لا تؤمن بمفهوم الدولة بقدر إيمانها بالمليشيات والسلاح المنفلت والقوة العسكرية والمذهبية لفرض إرادتها السياسية، في الوقت الذي لا يمتلك الكاظمي السلطة، بل جاء إليه المنصب لظروف استثنائية للطبقة السياسية التي كانت تعاني من الاختناق والتقلص والفشل. وهو في شتى الأحوال غير قادر على الوقوف بوجه التكتلات التقليدية التي ذكرناها سابقا بكل ما تمتلك من قوى عسكرية ومليشيات ومؤسسات مصرفية وبنوك ومنافذ حدودية ووزارات وآبار بترول وغيرها.
إن الظرف الاستثنائي هو الذي أتى بالكاظمي إلى سدة الحكم، وقد حاول أن يمد جسوره إلى محيطه العربي رغم محاربته داخليا. من ناحية أخرى، و انسحابه من الترشح للانتخابات المقبلة يمنحه الكثير من المصداقية لصالح تعهداته السياسية والأخلاقية قبل تسلمه منصبه.
لا بد من الإشارة إلى أن العملية السياسية في العراق كلها عبارة عن تبادل مناصب بين القوى والتكتلات السياسية وتركيز النفوذ والتحكم بالمشهد السياسي، يُضاف إلى ذلك اللاعب الدولي والإقليمي في ترشيح رئيس وزراء وهو جزء من التأثيرات والضغوطات، ولعل زيارة وزير الخارجية الإيراني الأخيرة للعراق تحمل الكثير من المعاني في الترتيبات السياسية المقبلة. لذا يجد الكاظمي نفسه بين قوتين هائلتين، وسط مليشيات الحشد الشعبي المدعوم إيرانياً، وسرايا السلام التابعة للصدر، وهي تُعد بالملايين.
على الرغم من إعلان الكاظمي عدم ترشحه للانتخابات المقبلة فإنه ربما يسعى سراً إلى ذلك مستعيناً بالقوى المحلية والإقليمية والدولية رغم عجز بعضها عن عمل شيء ما لصالحه، وسط ظروف مُعقدة للغاية. لذلك يسعى الكاظمي إلى المناورة في تصريحاته التي قد تتغير في اللحظات الأخيرة. مَنْ يدري؟
العاشر من أكتوبر المقبل سيكون حاسماً لمستقبل العراق ومصير ملايين العراقيين الذين يحلمون بولادة حكومة تكنوقراط تقدم لهم الخدمات وتستعيد هيبة الدولة وتخلصهم من سلاح المليشيات المنفلت المدعوم إيرانيا. إنه حلم العراقيين الذي يَصعبُ تحقيقه وسط 235 حزبا تتحكم فيها المصالح الذاتية والمذهبية بعيداً عن الهم الوطني العراقي في إنشاء دولته المنشودة التي تأسست في 1921 وأجهضت مرات عديدة بالانقلابات العسكرية والاحتلالات الخارجية على أنواعها وأشكالها.
هل تجد أفكار وأحلام رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي طريقها إلى الإنجاز في الانتخابات المقبلة على يد سياسي آخر يتبناها ويداعبُ فيها أحلام العراقيين؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة