محاولة بعث «القاعدة» من جديد تأتي بعد تركيز القوى الدولية ممثلةً في التحالف على تنظيم داعش الذي تدهورت قدراته التنظيمية والعسكرية.
اللعب بكارت التنظيمات الإرهابية، وحتى بمواقف مدفوعة الثمن السياسي من قِبل دول إقليمية، وعلى رأسها نظام ملالي طهران، أمر قديم تاريخياً، لكن الجديد هذه المرة محاولات بعث تنظيم القاعدة من جديد عبر تحريك الأجيال الجديدة الشابّة فيه بقيادة نجل أسامة بن لادن الذي مكث طويلاً في طهران، واليوم يظهر لهدف واحد محدد وهو تحشيد القاعديين ضد السعودية والولايات المتحدة، والحديث عن تحالف الدولتين على طريقة المؤامرة الكبرى التي كانت تستقطب سابقاً فتيان «القاعدة» فتأخذهم الحماسة، لكنه اليوم متجاوَز على الأقل من الشريحة الأوسع من المتلقين الشباب الذين لديهم قطيعة مع خطاب التطرف السياسي، والتجنيد عادةً ما يتم لصالح تنظيمات أكثر راديكالية وتوحشاً كـ«داعش»، لأسباب لا تعود للخطاب السياسي وإنما لأزمة هويّة منذ سنوات، ولذلك تراجع منسوب المنضمين إلى تلك التنظيمات من الخليج لصالح بلدان أخرى تعيش أزمة الاندماج الهوياتي كأوروبا فرنسا والمغرب العربي تونس.
قصة «التوريث» ورمزية «اللقب» في تنظيم القاعدة مسألة تستحق النقاش والمراجعة التحليلية، فمن المعلوم أن نسغ تنظيم القاعدة ولبها الأيديولوجي هو مزيج من الأيديولوجيا الجهادية التي صاغها عبد الله عزام مبكراً في «مطبخ بيشاور»، مستمداً من صناعة «الجيل الفريد» المجاهد كما يطرحه سيد قطب الذي تدور حول طروحاته الانعزالية مقولات الإسلام السياسي، لا سيما في أجنحة الصقور في التيارات الإخوانية والسرورية، وتلقاها منه الجهاديون الأوائل الذين خلطوا بين مكونات عَقَدية وحركية مختلفة، وتأثروا أيضاً بالتنظيمات اليسارية كأسلوب عمل وتجنيد ومعسكرات ضمن التأثيرات التي تلقتها الجماعات التربوية داخل التربية الإخوانية الكشافية... لكن في كل ذلك كانت مسألة القيادة تُناط عادةً إما بالإحالة إلى الشورى، بمفهومها الجهادي وهو أهل الحل والعقد من المستشارين الشرعيين للتنظيم، وإما بالقيادات العسكرية التي عادةً ما تكون لها كلمة الفصل.
محاولة بعث «القاعدة» من جديد تأتي بعد تركيز القوى الدولية ممثلةً في التحالف على تنظيم داعش الذي تدهورت قدراته التنظيمية والعسكرية، وبات لا يستطيع التحرك إلا عبر هجمات الذئاب المنفردة في أوروبا، وهو ما لا يمكن أن يُرضي نهم العابثين في المنطقة واللاعبين بكارت «الإرهاب» المنظم من إيران إلى حلفائها
وكان من غير المألوف أن يتم استغلال رمزية أيٍّ من قيادات التنظيم، فضلاً عن طرح مسألة التوريث، كما هو الحال في التقاليد التراتبية في العائلات الفقهية عبر التاريخ الإسلامي، والذي يتم عبر الأخذ المباشر في سلسلة التلقي، وعادةً ما يصطفي الرموزُ الدينية الكبرى أنجبَ أبنائهم لإكمال المسيرة.
حمزة بن لادن بالكاد تعرّف على والده الذي تركه صغيراً مع قيادات «القاعدة» في طهران ووزيرستان، وهو الابن الوحيد الذي تشير كل دلائل السيرة الذاتية إلى أنه تلقى أسلوب الخطابة من والدته التي تحمل شهادة الدكتوراه في التربية.
لكن ذلك كله لا يؤهله وهو في هذه السن (دون الثلاثين) لقيادة تنظيم القاعدة ومزاحمة أيمن الظواهري لولا أن التنظيم مستلب الإرادة لقوى استخباراتية تحاول الزج باسم بن لادن لأسباب «رمزية»؛ تدل على الإخفاق والفشل في إعادة بعث «القاعدة» من جديد عبر الظواهري للمهمة الجديدة، وهي التركيز على استهداف السعودية الجديدة التي أعلنت عبر جولة ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، عن رغبة وتصميم على اجتثاث التطرف والعنف من جذوره الفكرية، لا التعامل معه على طريقة ردة الفعل.
وأشار إلى مكامن العطل في العقل الإرهابي وتجلياته المعاصرة عبر الداعم الإقليمي له، نظام ملالي طهران، بنسخه الشيعية والسنية على حد سواء. واللعب بكارت «القاعدة» اليوم إعلان عن فشل استغلال تمرد الحوثيين ونهمهم إلى السلطة، ولذلك جاء توقيت محاولة بعث «القاعدة» بعد نجاح السعودية عبر جولة ولي العهد الأخيرة في انتزاع إدانات كبرى من الولايات المتحدة والدول الأوروبية حول العبث الإيراني في المنطقة.
محاولة بعث «القاعدة» من جديد تأتي بعد تركيز القوى الدولية، ممثلةً في التحالف على تنظيم داعش الذي تدهورت قدراته التنظيمية والعسكرية، وبات لا يستطيع التحرك إلا عبر هجمات الذئاب المنفردة في أوروبا، وهو ما لا يمكن أن يُرضي نهم العابثين في المنطقة واللاعبين بكارت «الإرهاب» المنظم من إيران إلى حلفائها في توتير المنطقة وتثويرها، والرغبة في استغلال الأزمات لتمرير الأجندة السياسية، وهو أيضاً ما يمكن أن نقرأه في طريقة تناول قناة «الجزيرة» القطرية لعودة «القاعدة» على طريقة «النصرة» بالرعب والتخويف، في حين أنها تدرك حجم الرمزية في استقطاب حمزة وإعادة تلميعه.
الرمزية تجلّت في وصف أيمن الظواهري في أول تقديم له لحمزة عام 2015، حين قال في تسجيله المرئي الأول إنه «وُلد أسد من عرين القاعدة». وهو ما يعني محاولة إظهار الاتصال التاريخي لإرث بن لادن العنفي عبر ابنه، ومحاولة استقطاب أكبر قدر من الأجيال الجديدة التي تم أسطرت بن لادن لها عبر الفيديوهات المصورة عنه، وعبر منتجات «الجزيرة» التمجيدية التي ما زالت تحصد أرقام مشاهدة وإعادة إنتاج كبيرة حتى الآن.
ظهر حمزة المصنوع على طريقة إعادة تمثيل المسلسلات التاريخية للرموز، في بث لمؤسسة «السحاب» في مايو (أيار) 2017، محاكياً نبرة والده وصوته وأسلوبه، وبنفس الرسائل الجاذبة حول استهداف الغرب، وأنه من أعظم القربات لاستعادة أمجاد الأمة... إلخ، شعارات «القاعدة» ذاتها.
بالأمس أصدر الجزء السادس من سلسلة الهجوم واستهداف السعودية، فيما بدا مرتبكاً ومعلقاً على التحالف بين السعودية والولايات المتحدة على الطريقة القديمة في صوغ المؤامرات. في حين أنه لم يقرأ، أو لم يُرِدْ من أخرجه من كهفه أن يقرأ له، أن التحالفات الجديدة في المنطقة تتجاوز العلاقة التاريخية مع الولايات المتحدة إلى محاولة ولي العهد السعودي تأسيس عقد سياسي جديد بين الدول المستقرة والمعتدلة في الوقوف ضد كل أدوات التخريب؛ متمثلةً في دول وتنظيمات وأيديولوجيات، وهو ما يجعلنا نفهم حجم هذه الهجمة، لكن يجب أن نضعها في سياقها الصحيح حتى لا نعطي فرصة استعادة الإرهاب لأنفاسه، فهي لا تعدو أن تكون محاولة رمزية لاستقطاب المزيد من الكوادر، وهي بحاجة إلى خطاب توعوي مضاد يفضح خطاب التطرف في التفاصيل، والمجمل والأهم هو أن يكشف عمن يقف وراءه من استخبارات وأنظمة وأجهزة إعلام تحاول أن تلعب ذات اللعبة القديمة.
السعودية اليوم لديها إرادة وتصميم غير مسبوق حتى لا تلدغ من جُحر الإرهاب مرتين.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة