علامات الدهشة ترخي بظلالها على تعبيرات وجه القارئ المتتبع لسلوك النظام الإيراني ونهجه في المنطقة، ولسان حاله يقول: «ما هذه المثالية التي يتحدث عنها كاتب هذه السطور؟»
علامات الدهشة ترخي بظلالها على تعبيرات وجه القارئ المتتبع لسلوك النظام الإيراني ونهجه في المنطقة، ولسان حاله يقول: «ما هذه المثالية التي يتحدث عنها كاتب هذه السطور؟» يؤكد كاتب هذه السطور من جديد أن هناك مثالية يتحدث عنها النظام الإيراني، ولكن السؤال: كيف هي صورتها؟ وهل هي في حقيقتها مثالية بالنظر إلى تطبيقاتها من الناحية العملية؟ نسير مع القارئ الكريم من خلال السطور القادمة لنجلي ذلك.
بداية تجلت الواقعية الخليجية في كثير من المناسبات والبيانات، تمثلت آخرها في حديث وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش، في الاجتماع الوزاري التحضيري في 7 مارس (آذار)، وذلك قُبيل انطلاق القمة العربية المزمع عقدها نهاية هذا الشهر في العاصمة الأردنية عمان. يقول الوزير أنور قرقاش، إن دول الخليج وضعت أُسُساً واقعية ومنهجية للتعامل مع إيران، تمثلت في التالي:
1- القبول بأن أساس العلاقات الإيجابية هو عدم التدخل في الشأن الداخلي للدول.
2- قبول طهران بأن ثورتها شأن داخلي وغير قابلة للتصدير إلى الدول العربية.
3- القبول بمبدأ المواطنة على أساس الوطن، وليس المواطنة على أساس المذهب. في المقاييس الدولية والعلاقات الحاكمة بين الدول، يعتبر ما تقدم من أساسيات العلاقات الدولية والتي تثمر بدورها عن علاقات سلمية، تساهم في فتح مجالات للتعاون والتنمية.
إذن لا حاجة لمزيد من التفصيل في الواقعية الخليجية، فهي واضحة وتتسق مع نظرياتها وتطبيقها. هذه الواقعية تدفع بالتالي لتحقيق علاقات مثالية مع الأطراف المعنية ولا سيما النظام الإيراني. في مقابل الواقعية الخليجية، هناك مثالية للنظام الإيراني يسعى جاهداً لتحقيقها. دلالات لفظ «المثالية» تعطينا دائماً جانباً إيجابياً لها،
ولو أننا مع القارئ نعود بالتاريخ إلى بداية الثورة الإيرانية عام 1979، وقبل أن تظهر ملامح تطبيقاتها، لكننا استبشرنا خيراً بها، ولكن وبعد تقادم هذه السنوات وتجلي سلوكيات النظام الإيراني في المنطقة، نتساءل مع القارئ: عن أي مثالية يتحدث النظام الإيراني؟ الواقعية التي تطرقت إليها دول مجلس التعاون، والتي تعتبر من أساسيات العلاقات الدولية، يجدها النظام الإيراني في المقابل شروطاً مسبقة من الطرف الخليجي، وهو أمر يرفضه. يمكن ملاحظة ذلك من خلال ما أشار له علي لاريجاني رئيس البرلمان الإيراني، في إشارة للرسالة التي تلقاها النظام الإيراني من دول الخليج، والتي حملها وزير الخارجية الكويتي إلى طهران، بالقول إن إيران مستعدة للحوار مع دول الخليج وترفض أي شروط لهذا الحوار. تجسدت المثالية بعد ثورة عام 1979، ووصول التيار الديني للسلطة، في ضرورة الترويج لنظام الجمهورية الإسلامية وخلق نماذج له في المنطقة، وبالتالي تصبح إيران وفق منظومته التي جاءت بعد فترة الشاه لتحقق المثالية الإسلامية، وظهور إيران بوصفها الدولة المثالية التي لا بد أن تحذو حذوها بقية الدول الأخرى. وبالتالي فإن هدف النظام الإيراني وفق ما هو عليه الآن وسيطرة التيار الأصولي على مفاصله، هو الهيمنة الإسلامية والعالمية الإسلامية بنظام عالمي إسلامي يخدم مصالحه وتوجهاته، وليس تلك المثالية التي تفرز علاقات سليمة مع بقية الدول، ذلك لأن أدوات الوصول إلى العالمية الإسلامية إفرازاتها واضحة لدى العيان.
يعزز هذه النظرة المرتكز التاريخي الذي يدفع هذا الفكر إلى المضي قدماً في التواصل مع بعض القوى والميليشيات، سواء وفق توجهات مذهبية أو جماعات إسلامية بشكل عام من منطلق المثالية التي يسعى لها. لا يعني ذلك أن النظام الإيراني بعيد عن الواقعية والبرغماتية، فالمرشد الإيراني يقول: «نحن نؤيد بشكل كامل المثالية، وكذلك الحال بالنسبة للنظرة الواقعية... غير أن الواقعية يجب ألا تجعلنا بعيدين عن أهدافنا، بل يجب أن تكون سُلماً لنقترب من تلك الأهداف».
يتجلى ذلك بوضوح في طريقة تعاطي النظام الإيراني مع مجموعة «5+1» والوصول إلى الاتفاق النووي. فالمثالية كانت تقود النظام الإيراني للوصول إلى السلاح النووي، ولكن الواقعية فرضت عليه عدم الوصول إلى تلك المثالية، ولعل واقعيته في ذلك وحصوله على مكتسبات واحتفاظه بالبرنامج النووي والتخصيب يجعلها سُلماً للوصول إلى المثالية ربما في المستقبل. وما الضير أن تصبح إيران ذات نظرة واقعية في تعاملها مع دول المنطقة؟ يتساءل القارئ. ظهور إيران كقوة إقليمية كبرى في المنطقة واعتبارها مفتاحاً لحل الأزمات في المنطقة «مثالية» يسعى لها النظام الإيراني، الذي يضفي على ذلك بُعداً دينياً بحكم منطلقاته لتحقيق تلك المثالية. هذا الأمر وقراءته للمنطقة والدول العربية على أنها ليست متناغمة فيما بينها، وبالتالي من الصعوبة تناغم مواقفها حيال ممارسات النظام الإيراني،
يجعل هذا الأخير يستمر في سياساته والتدخل، يساعده أيضاً وجود ميليشيات وأذرع له في المنطقة أصبحت مؤثرة في دولها، مثلما هو الحال في لبنان والعراق وسوريا. الواقعية الخليجية لن تلقى لها صدى لدى النظام الإيراني، طالما لا توجد أدوات وسياسات مشتركة خليجية وعربية تدفع النظام الإيراني للانتقال من المثالية إلى الواقعية، أو على أقل تقدير «المثالية الواقعية» بحيث يكون نموذجاً للتنمية، ويستطيع أن يقدم للمنطقة نماذج مثالية في التنمية والاقتصاد وغيرها.
«قبول طهران بأن ثورتها شأن داخلي وغير قابلة للتصدير إلى الدول العربية»، هي عبارة جاءت في حديث الوزير أنور قرقاش، وهي ترجمة للأسس الواقعية لدول مجلس التعاون الخليجي في تعاملها مع النظام الإيراني. ما أصداء ذلك على الطرف الآخر ورغبته في التعامل مع ذلك الأمر بجدية؟ دعوة مني للقارئ للتمعن وإسقاط ما في السطور القادمة على توقعاته المستقبلية بين الواقعية الخليجية ومثالية النظام الإيراني وتطبيقاتها على أرض الواقع.
«فبعد وفاة الخميني وإعادة النظر في الدستور، اجتمع أعضاء المجلس الأعلى للأمن القومي برئاسة هاشمي رفسنجاني، وتوصلوا إلى نتيجة، مفادها أن نظام الجمهورية الإسلامية في إيران لن يدوم من دون توسيع نطاق الثورة الإسلامية خارج حدود إيران. ووفقاً لذلك سار راسمو السياسة الخارجية الإيرانية باتجاه وضع إيران بوصفها (أُماً للأوطان الإسلامية) لكي تتمكن من أن تصبح مركزاً وقاعدة للحركات الإسلامية، والتي يتوجب دعمها مادياً ومعنوياً لكي تتمكن من الوصول إلى السلطة، وهو ما سيحقق ديمومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية» (علي رضا أزغندي: سياست خارجي جمهوري إسلامي إيران. ص 34).. . . .
نقلا عن / الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة