لا تزال الإدارة الأمريكية تعمل بمنطق إقصائي.
وبرغم قرب بلوغ إدارة "بايدن" 12 شهرا في "البيت الأبيض" فإن الأخطاء الأمريكية لا تزال قائمة، بل تزيد في ظل حالة من عدم الاستقرار في المنظوم العالمية، واستمرار حالة التجاذب الكبيرة بين القوى الدولية، وهو ما سيمتد في الفترة المقبلة، ولن يقتصر على الولايات المتحدة والصين، بل سيشمل دولا أخرى مثل روسيا واليابان دوليا، وتركيا وإيران إقليميا، حيث تسعى الولايات المتحدة مجددا لتقسيم العالم إلى معسكرين: "مَن معنا" و"مَن ضدنا"، وتحديد هوية العدو الحقيقي، ممثلا في الصين، وبدرجات أو أخرى روسيا، مع العمل على فكرة المقايضات الكبرى في الأقاليم، وليس في الشرق الأوسط.
خطورة تفكير هذه الإدارة الأمريكية الراهنة أنها تريد بناء ترتيبات أمنية من أعلى، ودون مشاورات، أو نقاشات، بالرغم مما يجري ويحيط السياسات الأمريكية من ضبابية والارتكان بصورة كبيرة لمشروعات وترتيبات سبق أن طُرحت في إدارة الرئيس أوباما، وحملت أسماء وأشكالا عدة، وفي الوقت الراهن يُعاد طرحها من جديد عبر استراتيجية مرحلية والعمل على مسارات واتجاهات عدة، مع عدم التركيز فقط على جنوب شرق آسيا، بل أيضا في الشرق الأوسط وشرق وغرب أوروبا، انطلاقا من حسابات وتقديرات كبيرة للإدارة الأمريكية في إطار مسعاها للعمل على مواجهة الصعود الصيني والروسي وتمدد قوى آسيوية تتحسب لصعودها، وتشمل اليابان والهند وباكستان، إضافة إلى دول ووحدات سياسية متعددة، وبالتالي فإن انطلاق الإدارة الأمريكية من حسبة قديمة جديدة يُعاد تقديمها للعالم قد لا تكون صالحة في الوقت الراهن وهي تتحدث عن الأمن المطلق والترتيبات الأمريكية والتقديرات العليا للدولة الأمريكية، التي يُفترض أن تقود العالم بكل ما فيه من تطورات جارية.
الواقع أن الإدارة الأمريكية الراهنة في حاجة إلى مراجعة مجمل سياستها، وقد اقتربت من البقاء 12 شهرا في "البيت الأبيض" ولا تزال في مرحلة استكشافية للعالم، والرضوخ لفكر خبراء إدارة أوباما، وليس الرئيس الراهن، والذي لا يزال يبني سياسته انطلاقا من مقاربة حزبية ضيقة وغير جديدة وتحمل كما هائلا من السياسات والتوجهات المتضاربة، التي ستكرس سياسة التأزم مع العالم حال المضي قدما في بناء شراكات متعددة على حساب علاقات أمريكا الكبرى، والتي تحمل ثوابت لا يمكن لأي رئيس أمريكي مهما كانت شعبيته أن يتجاوزها أبدا في إطار حسابات مهمة وتقييمات سياسية حقيقية يمكن العمل من خلالها والانتقال وفق استراتيجية محددة.
وقد أعاد الرئيس "بايدن" تأكيد رسالته للجمهور الأمريكي أولا عبر تنشيط الديمقراطية في الداخل الأمريكي في الأشهر الستة الأولى من ولايته، فقام بتطعيم 70%من السكان، وتمرير خطة الإنقاذ الأمريكية، وتطوير تشريعات الحزبين للاستثمار في البنية التحتية، وحشد العالم للوقوف ضد انتهاكات حقوق الإنسان، ومعالجة أزمة المناخ، ومكافحة الوباء العالمي كوفيد-19، بما في ذلك التبرع بمئات الملايين من جرعات اللقاحات إلى بلدان في مختلف أنحاء العالم، ولكن لم يتطرق بالفعل إلى ما يجري في الداخل من تأزم مستمر لم يستطع التعامل معه، خاصة أن حالة الاحتقان قائمة، ولا تزال في الكونجرس ومجلس الشيوخ، ولم ينجح الرئيس جو بايدن في الخروج بخطاب تصالحي مع العالم.
المعلن أمريكيا، وعبر الخطاب السياسي والإعلامي للرئيس "بايدن" وكبار مسؤولي إدارته، توحيد الحكومات الديمقراطية ضد الصين ومساعيها لنشر نفوذها الاقتصادي والسياسي والعسكري، والعمل على حشد المواقف والتوجهات من أجل التصدي لسلوك الصين، ومن ثم فإن المشهد الدولي يتجه لترسيخ معادلة صعبة لتقسيم الأرض، بل والمنظومة العالمية، بين دول العالم الحر وبين البقية الأخرى من العالم بكل دوله كبرى وصغرى، بشكل يؤكد وجود الخريطة الذهنية القديمة، التي صاغها صانعو السياسة الخارجية الأمريكية قبل نحو 8 عقود خلال الحرب العالمية الثانية، وهو ما يتكرر في الوقت الراهن، وبالتالي فإن الإدارة الأمريكية الحالية لم تطلع على ما جرى من تطورات حقيقية تمس مسار الديمقراطية والليبرالية، التي تتحدث الولايات المتحدة عنها باعتبارها النموذج الرئيسي لهذا التوجه، الذي تريد الإدارة الأمريكية فرضه مجددا على العالم.
ومن المتوقع أن تستمر الولايات المتحدة في سياستها ولن تغيرها، بل ستعمل على تأكيد ثوابتها.. والإشكالية هنا لن تكون في احتمال إجراء انسحابات في العالم أم إعادة تموضع للقوات الأمريكية، وقد لا يتفق فعليا مع الاستراتيجية الأمريكية الراهنة، والتي لا تزال تعمل على البقاء بالقرب من مناطق الصراعات، وإعادة تدويرها والعمل وفق استراتيجية محددة ومتنوعة وشاملة، وليس إجراء أي انسحابات من أي منطقة، كما هو شائع في الموقف الأمريكي الراهن.
نحن إذاً أمام سياسة أمريكية تمضي في اتجاه واحد، وقد تتبنّى إدارة الرئيس جو بايدن حالة من التأزم الدولي إنْ مضت في نفس المسار التفاعلي الراهن، والذي لن يقتصر على مواجهة الصين، بل سيؤدي لتبعات للسياسة الأمريكية في العالم، خاصة مع تربص المؤسسات البيروقراطية الأمريكية بما يجري، فلن تقف موقف المتفرج، بل على العكس ستتدخل عند الضرورة لمراجعة السياسات والتوجهات انطلاقا من المصالح العليا للولايات المتحدة، والتي لا يديرها الرئيس "بايدن" فقط، بل دوائر متعددة في مراكز صنع القرار، وهو ما يدركه "بايدن" جيدا ولن يجرؤ على تحدي هذه المؤسسات التي لفظت رؤساء كبارا مثل الرئيس جورج بوش الأب والرئيس كيلنتون والرئيس فورد، ومن ثم فإن نجاح "بايدن" هو إعادة ترتيب الحسابات والتقييمات انطلاقا من غايات كبرى للأمة الأمريكية ومصالحها، وليس الدخول في مواجهات انطلاقا من مقاربات تبدو نظرية ولا معنى لها في سياق ما يجري من صراعات مع الصين، وهو الأمر الذي يؤكد أن إدارة "بايدن" مطالبة بإجراء تغيير حقيقي في معادلات نظام الحكم، وعدم العمل انطلاقا من حسابات ضيقة ومحدودة.. تحتاج بالتأكيد إلى مراجعة بعيدا عن الفلسفة التي تحكم هذه الإدارة برغم وجود خبراء كبار فيها، غالبيتهم عمل من قبل في إدارة الرئيس باراك أوباما.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة