اعتدنا نحن سكان الشرق الأوسط المتعب دائما أن ننظر إلى أمريكا كيف سنكون في حساباتها؟
بعد كل رئيس أمريكي جديد تكثر التساؤلات، ويكثر التنبؤ، ومعهما يكثر القلق.
هل يكون الشرق الأوسط ومنطقتنا العربية حقل تجارب لمغامرة أمريكية مثل فيل دخل إلى بيت من زجاج؟
قدرنا السياسي أن نظل دائما ننتظر مصائرنا من دولاب السياسة الأمريكية، اعتدنا أيضا بعد كل رئيس أمريكي جديد أن تكون هناك بوابة شرق أوسطية يزورها ومنها يقدم خطابه للمنطقة، وفيه تنكشف السياسة التي سيتبعها خلال ولايته.
تابعنا ذلك بترقب كله شغف بعد مغادرة بوش الابن ونجاح "أوباما"، وكانت القاهرة وقتها هي البوابة التي اختارها "أوباما" ليدخل منها إلى ذلك الشرق الأوسط، وتحديدا من على منصة جامعة القاهرة في الرابع من يونيو 2009؛ حيث قدم خطابه الشهير الذي كان بمثابة بالون كبير ملأه بالأمنيات التي مع الوقت تبخرت بعد انفجاره.
جاء سياق خطاب "أوباما" مؤلما مخيفا، جاء بعد تيار من الصقور الذين احتلوا العراق وأفغانستان وحولوا المنطقة بتهوِّر إلى شعلة من نار.
لعب "أوباما" كديمقراطي ناشئ على وتر الخوف والقلق، بعنوان خطابه "البداية الجديدة" ليحمل ما قد يحمله من طمأنة، وفي متن الخطاب تحدث عن وحدة المصير ونطق بالعربية، واستدل بآيات من القرآن الكريم، ولو زاد قليلا لتحول إلى الشيخ "أوباما"!
كان الخطاب موجَّها إلى العالميْن العربي والإسلامي، وقال يجب أن يعلم الجميع أن أمريكا ليست عدوة لكم.
قبل الخطاب التقى الملك عبدالله الثاني ملك الأردن، ثم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ثم الرئيس الفلسطيني محمود عباس ، ثم أكد في الخطاب حق الفلسطينيين في دولة مستقلة على حدود عام 1967.
وبعدها زار مسجد السلطان حسن في القاهرة برفقة "هيلاري كلينتون" التي ارتدت الحجاب أثناء دخولها المسجد.
كانت الرسائل حقا مريحة ومطمئنة، وكانت النتائج والتجربة بعد ولايتين رئاسيتين مؤلمة ومناقضة لكل ما جاء في ذلك الخطاب الغارق في الرومانسية السياسية.
انتهى عهد "أوباما" بتوريط المنطقة بتسليمها للإيرانيين بعد اتفاق نووي إيراني غير مدروس، نتج عنه تغول إيراني في اليمن وسوريا ولبنان والعراق.
وفي القضية السورية انهزم أمام الروس فضاعت لعبة التوازنات فيها، ثم انتهى بها الحال إلى ما هي عليه الآن بعد كم الدماء التي سالت ببراميل متفجرة أو غرق في البحر، أو حتى موت في معسكرات اللجوء.
تراجع "أوباما" في سوريا جعل الأتراك والإيرانيين والروس يتوحشون وضاع الشعب.
ولما غادر "أوباما" وجاء "ترامب" تجدد الأمل وتكرر السؤال عن المصير المنتظر لمنطقتنا في أجندة الساسة الأمريكيين، انتظرنا من أين ستكون البداية؟
بعد وقت كان الجواب يأتينا من الرياض في مايو 2017؛ حيث كانت أول زيارة خارجية له بعد توليه الحكم، في الرياض لم تكن مجرد كلمة مدهونة بالعسل كما فعل أوباما وإنما كانت ثلاث قمم مهمة نتجت عنها قرارات أيضا وحراك وتغيرات لمسها البعض.
القمة الأولى قمة أمريكية سعودية.
القمة الثانية قمة أمريكية خليجية.
القمة الثالثة قمة أمريكية عربية إسلامية بحضور زعماء 55 دولة.
بعدها انسحب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، ذلك الاتفاق الذي وقعه "أوباما" ودفعنا ثمنه نحن من دمائنا في العراق وفي اليمن وفي لبنان.
ثم فرض حزمة عقوبات على إيران أدت إلى تجفيف تمويل المليشيات الإيرانية في المنطقة خصوصا حزب الله في لبنان.
ثم تم قتل قاسم سليماني أخطر الفاعلين الإيرانيين في إرباك المنطقة.
قد لا يكون ترامب ناجحا تبعا لمقاييس الداخل الأمريكي لكنه تبعا للأجندة العربية في الشرق الأوسط حقق بعضا من توازنات كانت مفقودة في عهد من سبقه.
الآن وبعد مغادرة ترامب بشكل درامي، نحن الآن في منطقة الانتظار والسؤال:
من أين سيبدأ بايدن الرئيس الأمريكي الجديد محطته في الشرق الأوسط؟
وأي بلد سيكون البوابة التي يوجه منها رسائله إلينا؟
وقبل الغوص في التحليل علينا أن نركز على نقطة شديدة الأهمية، وهي إذا كان الشرق الأوسط جزءا قليلا من كل كبير في إطار سياسة بايدن الخارجية، فهل اتضحت ملامح تلك السياسة؟
لعل الذي تابع ما قاله بايدن في خطاب التنصيب، وتابع تصريحاته إبان حملته الانتخابية، أو حتى ما نشره من مقالات تتحدث عن رؤيته لإدارة أمريكا، يكتشف حقيقة مهمة، وهي أن السياسة الخارجية بالنسبة له ستكون في مرتبة متأخرة جدا بعد السياسة الداخلية التي ركز عليها كثيرا.
أولويات الرجل ليست نحن، ولا السياسة الخارجية، فقد تسلم أمريكا وبها شروخ كبيرة وانقسامات تتخطى ما هو سياسي إلى الإنساني والاجتماعي، وبالتالي ستكون الأولوية هي العمل على إعادة ترميم البيت الأمريكي من الداخل.
كما أشار إلى التطرف المجتمعي بين البيض والسود، من مؤيدي ترامب، ومن المتضررين من كورونا، والكثير الكثير من قضايا الداخل.
أما السياسة الخارجية فالنقطة الفارقة في رصدها تخرج من تكراره إعادة القيم الأمريكية، خصوصا حين ذكر "أننا لن نقود بنموذج قوتنا بل نقود بقوة نموذجنا"، وأيضا حين تحدث عن القيادة بالقدوة وليست القيادة بالقوة".
كل هذا يحمل رسالة واحدة مفادها أنه لن يكرر ما فعله "بوش الابن" من احتلال أو استخدام سلاح أو فرض نموذج القوة العسكرية وليست السياسية، وربما يكون هناك مجال أكبر لاستخدام أساليب القوة الناعمة أكثر من القوة الخشنة.
بايدن قد يصبح منكفئا على قضايا الداخل عامَه الأول على الأقل، حتى يتمكن من الالتفات إلى القضايا الخارجية.
وعلمتنا التجارب مع السياسة الأمريكية أن ما يقال شيء، وأن ما يفعلونه شيء آخر.
لذا سننتظر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة