تحتدم في العراق هويات متجردة في انتمائها، فقد وجدت نفسها في مواجهة مدعومة من السياسة.
فالمشهد العراقي بعد العام 2003م، مشهد تتصارع فيه الهويات، وتغيب فيه الأدلة التاريخية التي من المفترض أن تقود المسار السياسي لكي يخرج العراق من أزمته.. الأسئلة المغلفة للهويات المتصارعة كثيرة والهويات تتنافس داخل مربع جغرافي واحد اسمه العراق، والذي أصبح من السهل أن نرسم له مشهدا سياسيا يعكس تلك التناقضات الكبرى الباحثة عن مخرج مناسب لأزمة هذه الدولة العريقة في كل شيء.
عند تحليل المشهد العراقي يقفز إلى المقدمة أربعة عناصر لهويات متناحرة داخل العراق، وكما هو معروف فالهويات أبنية رمزية يتم إنشاؤها وفقا لمرجعيات محددة بغض النظر عن هذه المرجعيات ونوعها، فليس في العراق صراع على السلطة بالمعنى السياسي، ولكنه صراع هويات محتدم يستخدم السياسة..!، ومع الأسف فإن الطبقة السياسية هي من ركَّب تلك المعادلة الصعبة في العراق، لذلك أصبح من السهل اكتشاف هذه العناصر فأولها من يدعي أن نشاطه العسكري مقاومة مشروعة، وهناك من يدعى أن نشاطه الإرهابي منعطف مهم لصناعة دولة تفترش الإسلام السياسي وتلتحف الإرهاب لتحقيق طموحها.
العنصر الثالث هيكل الدولة الذي يمسك بزمام الشرعية السياسية عبر هيكل معترف به دوليا، ولكنه عاجز عن ممارسة دوره، ليس ضعفا وإنما بسبب تزاحم تلك الهويات المتناحرة على أرضه وقوة استهلاكها للشعب العراقي، وقدرتها على التحدي السياسي، أما الادعاء الأخير فيأتي من خارج العراق حيث تعتقد دول محيطة بالعراق رغبتها في الاستيلاء على أرض العراق وشعبه، كما تحاول أن تفعل تركيا وإيران، بينما تحاول دول عالمية وإقليمية أخرى أن تسهل العملية السياسية من أجل وحدة العراق، ولكن الأزمة أمامها أن الأرض العراقية ليست مستعدة لقبول اقتراحاتها عطفا على معطيات الهويات المتناحرة على الأرض والتي تختار لها مرجعيات خارج إطارها الجغرافي وتستعين بدول أخرى لإثبات مكانتها.
صمود الهيكل السياسي وعجزه عن تجاوز منعطفات الهويات المتناحرة ليس ضعفا، ولكن تعقيدات التاريخ والجغرافيا على أرض العراق عميقة ويصعب تفكيكها، لم نرَ العراق يوما عبر التاريخ كدولة قومية بالمعنى الاجتماعي، لأن تشظِّي هويات شعب العراق تاريخيا وقف دائما أمام صناعة قومية عراقية حتى عندما كان حزب البعث يحاول فرض القومية العربية على أرض العراق، لكنه تحول بشكل مباشر إلى هوية تتنافس مع الهويات الأخرى وليس قومية تبتلع الجميع من أجل وطن واحد.
العراق كما هو مشهده السياسي قضية لن يكون من السهل تفكيك رموزها، والأحداث الأخيرة والعمليات الإرهابية تنبئ عن منافسة شديدة في قادم الأيام، ولن يكون الانسحاب الأمريكي الغربي من العراق هو الحل، ولن يكون الإسلام السياسي هو الحل، لأن العراق بحاجة إلى مساعدة داخلية من أبنائه، ومساعدة خارجية من دول تحيط بالعراق، حيث عليها أن تتركه وشأنه وتنسحب سياسيا وعسكريا لتسمح للعراقيين بأن يبنوا وطنهم الذي -ومع كل أسف- أُخرج من المنافسة الدولية في مجال الدول المستقرة بفعل تأثيرات أبعدت العراق عن طموحاته كأمة مستقلة كان من المفترض أن تكون في اندماج مادي ومعنوي، وتحت سلطة مركزية بحدود جغرافية وقومية محددة وتاريخ سياسي وثقافي يستوعب العراق بتعدد هوياته، وليس سرقته من أطراف خارجية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة