استحوذت الأزمة الروسية-الأوكرانية على اهتمام العالم، بعد التداعيات الخطيرة التي جرت وتجري من ورائها.
فبمجرد بزوغ الأزمة تباينت مواقف دول العالم بين منجذب لهذا الطرف ومتحيز لذاك، فيما هناك دول اختارت الحياد.
وقد تراجعت مؤخرا دول الشرق الأوسط عن دعم خيارات واشنطن، ما شكّل صدمة للإدارة الأمريكية، التي فقدت دول المنطقة الثقة بها، نتيجة تصرفاتها أحادية الجانب على طول الخط، دون مراعاة لمصالح الآخرين في ملفات عدة.. فمثلا لم ينضم حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط لحملة العقوبات على روسيا، محاولين التواصل وحل الأزمة الروسية- الأوكرانية عبر الحوار والتفاوض، بدلا من تفاقمها إلى مدى يضر بأمن العالم ككل، حتى إسرائيل، الحليف الأول لأمريكا بالمنطقة، فرغم تنديد وزير خارجيتها بأفعال روسيا، لكنها لا تزال تحافظ على اتفاقها وتحالفها مع روسيا في ملفات عديدة، منها تنسيق المواقف في الملف السوري.
وقد رفضت المملكة العربية السعودية، رئيس منظمة "أوبك"، طلبات الولايات المتحدة بضخ مزيد من النفط للمساعدة في الحد من ارتفاع أسعار الخام، التي تجاوزت 117 دولاراً للبرميل وسط مخاوف بشأن نقص الإمدادات بعد الأزمة الروسية الأوكرانية، وفرض عقوبات أمريكية على نفط روسيا، وكذلك امتنعت الإمارات عن تعويض الحصة الروسية، نظرا لعدم وجود استقرار سياسي، ومن ثم فلن تكون هناك سيطرة على سوق النفط بأي حال من الأحوال.
ويُمكن القول، إن كلاً من السعودية والإمارات رأى كم أن الإدارة الأمريكية منفصلة عن الشرق الأوسط، منذ أن أعلن الرئيس الأسبق باراك أوباما التوجه نحو آسيا والتقليل من الانخراط في المنطقة ومشكلاتها، مع شكوك عالمية حول بقاء أمريكا كقوة وحيدة تحكم العالم مستقبلا.
لقد دفع الانسحاب المفاجئ للولايات المتحدة من أفغانستان في أواخر أغسطس الماضي، وتركيز السياسة الخارجية الأمريكية على الصين، حلفاء الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، ولا سيما دول الخليج العربي، للبحث عن علاقات أمنية واقتصادية جديدة ومتوازنة.
وعلى عكس أمريكا، التي فقدت وجودها وتأثيرها في المنطقة، فقد دعمت روسيا نفوذها ووجودها، مستغلة الانسحاب الأمريكي.
وعلى صعيد الأزمة الأوكرانية، فقد تجنبت معظم الدول الحليفة لواشنطن اتخاذ مواقف من الأزمة قد تنعكس سلباً على اقتصاداتها، كما بدأت دول بالمنطقة في تعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع كل من الصين وروسيا.
وعلى الجانب الاقتصادي، فإن الحفاظ على تحالف "أوبك+"، هو مفتاح الانتعاش الاقتصادي في البلدان المنتجة للنفط.. كما أن دولاً عربية أخرى، مثل مصر والجزائر والمغرب وتونس، التي تعتمد على واردات القمح من كل من روسيا وأوكرانيا، ترى موقفاً محايداً في الصراع الروسي الأوكراني باعتباره أفضل طريقة لتقليل التأثير على أمنها الغذائي.
لم يكن في انتظار واشنطن -بعد انسحابها من المنطقة ودعمها الحوثي الإرهابي برفعه من قائمة المنظمات الإرهابية وذهابها للتوقيع على اتفاق نووي مع إيران دون مشاركة دول المنطقة المتأثرة سلبيا بسلوك إيران الإقليمي- إلا أن يذهب حلفاؤها حيث توجد مصالحهم بعد كل هذه الممارسات الأحادية الأمريكية، التي لا تراعي أبسط قواعد التحالف والشراكة والصداقة، في الوقت الذي يُعاد فيه تشكيل العالم، على خلفية الأزمة الأوكرانية، ببزوغ تحالف روسي-صيني قد يمُدُّ كثيرون له يدًا تم سحبها من اليد الأمريكية غير الموثوقة.
بشكل عام، يشوب نظرة قادة الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة قدرٌ كبير من عدم اليقين في الوقت الحالي، ويميل كثيرون إلى تنويع سياساتهم الخارجية وإحداث توازن بها، لأنهم يعتقدون بأنه لا يمكن الاعتماد الكامل على واشنطن.. فقد شهد العقد الأخيرات تغيرات في علاقات ومصالح الدول العربية بكل من الولايات المتحدة وروسيا، ويبدو أن الخروج الفوضوي الأمريكي من أفغانستان في أغسطس الماضي أقنع العديد من دول المنطقة بأن الانفتاح على الصين وروسيا اقتصادياً وسياسياً ربما يوفر ضمانات ومصالح أكبر ممَّا توفرها واشنطن.. إذ تسعى الدول العربية، كل على حدة، للإبقاء على خيارات متعددة خدمة لمصالحها المختلفة، وترى أن مصلحتها على المدى الطويل تقتضي الإبقاء على قنوات الاتصال مفتوحة مع موسكو وغيرها من العواصم العالمية الكبرى.
في الخلاصة، لقد استيقظ الغرب -أمريكا وتابعها من دول أوروبا- ليجد أن دول الشرق الأوسط، التي كانت ترمي بحمولتها كاملة عليه، لم يعد أمرها كما كان.. ولعل الحدث الأوكراني غيّر ويغيّر من طبيعة العلاقات في المجتمع الدولي، عبر احتمالية إعادة رسم خريطة تحالفات جديدة على أسس أكثر ثقة وثباتا ومنفعة وعدلا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة