بالفيديو.. "كفيفات النور والأمل" عندما تُعزف الموسيقى بلا "نوتة"
فتيات كفيفات قررن تحدي المصاعب ودخول التاريخ عبر عزف الموسيقى.
"مريم كمال".. فتاة في أوائل العشرينيات من العمر تقترب منها لتفتح حواراً فتجد وجهاً بشوشاً حُرم من نعمة البصر ولكنه لم يُحرم من الابتسامة المشرقة بل ومنح قلباً تذوق حب الموسيقى حتى النخاع.
ربما لم ترَ الفتاة العشرينية أصابعها طوال العمر.. ولكنها لا تستطيع إنكار أنها كانت وسيلتها لإشباع هواية طورتها منذ الصغر لتكون بوابتها لتجوب العالم.
"الإسبانية" هي اللغة التي اختارت مريم دراستها في كلية الألسن بجامعة عين شمس، و"الكمان" هو الآلة التي قررت الشابة الصغيرة تعلمها داخل أوركسترا "النور والأمل".
لم تكن "مريم" التي تعيش في جمعية "النور والأمل لرعاية الكفيفات" على معرفة في الأصل بوجود مدرسة لتعليم الكفيفات، إلا أنها بعد التحاقها بالمدرسة وتعلم القراءة والكتابة بطريقة "برايل"، فُتح لها باب أن تكون عازفة في أوركسترا معهد الموسيقى التابع للجمعية.
سنة كاملة قضتها مريم عندما كانت في الصف الثاني الابتدائي لدراسة "الصولفيج" وهو كل ما يتعلق بالغناء والعزف والأصوات الموسيقية، لتختار بعد ذلك الآلة الموسيقية التي ترغب في تعلم العزف عليها، ووقع اختيارها على "الكلارنيت".
لم يتوقف حب مريم للموسيقى عند تعلم آلة واحدة، فدرست "الكمان" لتنضم بعد سنوات لما يُسمى "أوركسترا الكبار" في المعهد الذي ينقسم إلى "أوركسترا الصغار" أو "البراعم" وإلى "أوركسترا الكبار".
فبينما تضم "البراعم" 27 عازفة من فتيات المدرسة والجامعة وهن الجيل الرابع من أجيال المعهد، تضم "أوركسترا الكبار" 50 عازفة لا يزال من بينهن فتاة أو اثنين من الجيل الأول.
لكن.. كيف بدأت رحلة معهد موسيقى النور والأمل منذ 1961 داخل محافظة القاهرة، لتطوف حول العالم وتعزف الأوركسترا الألحان أمام المئات؟
ينبثق معهد الموسيقى من الجمعية التي أسستها سيدات متطوعات مع السيدة "استقلال راضي" في العام 1954، ليكون أول مركز في الشرق الأوسط لتعليم وتأهيل ورعاية واندماج الفتيات والسيدات الكفيفات في المجتمع.
وفي العام 1961 أسست السيدة "استقلال" مع الدكتورة "سامحة الخولي"، التي كانت حاملة لدكتوراه في الموسيقى من إنجلترا - معهد الموسيقى، وفقاً لنائب رئيس "النور والأمل" أمال فكري.
حين تشاهد "مريم" وهي تتحدث بشغف عن الموسيقى تتولد بداخلك مشاعر مختلطة ما بين الانبهار والدهشة والكثير من علامات الاستفهام، فيكون السؤال الأول "كيف تقرأ مريم النوتة الموسيقية؟".
يعود الفضل لكتابة النوتة الموسيقية لمسئولة المكتبة في المعهد التي تتولى كتابة هذه النوت للحصص والأوركسترا بطريقة برايل، ثم تأخذ الفتيات النوت وتحفظها عن ظهر قلب ليعزفن الموسيقى دون حاجة إلى قراءتها، فأوركسترا "النور والأمل" هي الوحيدة على مستوى العالم المكونة من فتيات كفيفات يعزفن اعتماداً على الحفظ.
توفر الجمعية الآلات الموسيقية للفتيات، بل وتدفع لهن مرتبات أيضاً، وتبدأ رحلة الفتيات مع الموسيقى من الصف الثاني الابتدائي حيث تختار الجمعية حاملات الموهبة وتختبرهن لقياس جودة سمعهن وأصابعهن للآلات الوترية، والفم والأسنان لآلات النفخ.
في العام الأول تتعلم العازفات نظريات الموسيقى، وفي العام الثاني يتم توزيع الآلات المختلفة عليهن إما حسب اختيارهن أو يختار أساتذة الموسيقى الآلة لكل فتاة حسب قدراتها.
تعلم الموسيقى ليس أمراً سهلاً، فتوضح "فكري" أن الوتريات تحتاج إلى سنوات طويلة للتدريب للوصول للأداء المتميز تصل إلى 8 سنوات على الأقل حتى تتمكن الفتاة من العزف في الأوركسترا، بينما يكون تعلم آلات النفخ والإيقاع بدرجة أسرع.
شهد العام 1972 أول حفل للأوركسترا بمشاركة 15 عازفة كفيفة في دار الأوبرا القديمة في العاصمة القاهرة، وتدريجياً ارتفع عدد المشاركات في الأوركسترا وقدمن حفلات في المدارس والجامعات والنوادي والمؤتمرات، ليصل العدد لأكثر من 30 عازفة.
يعود الفضل للإشادة التي نالها حفل أقيم في مسرح الجمهورية العام 1987 في بداية تفكير الجمعية في إقامة حفلات خارج مصر، وكانت أول رحلة إلى النمسا بمساعدة السفير المصري هناك في العام 1988 بمشاركة 34 عازفة.
تتذكر "فكري" الدول التي زارتها الأوركسترا وتقول إن الفتيات سافرن 30 مرة للخارج خلال 25 سنة، وعزفن في 24 دولة، منها 14 دولة أوروبية، و5 دول عربية، و3 دول آسيوية، منها الإمارات والأردن والكويت وإنجلترا وألمانيا والسويد وإسبانيا وأستراليا وكندا، أي عزفت الفتيات في 5 قارات.
لوضعهن الاستثنائي لا يعتبر "مدرب" أوركسترا النور والأمل الدكتور "عليّ عثمان" عثمان نفسه قائدًا وإنما مدربًا، فيكتفي على المسرح بتحديد المقطوعة الموسيقية وسرعتها – ما يُسمى "التيمبو" – ثم تبدأ الفتيات بالعزف، وهذا خلاف ما يفعله مايسترو المبصرين.
يقول "عثمان" الأستاذ بمعهد الكونسرفتوار، إن مدرب أوركسترا الكفيف يبذل مجهوداً أكبر في تحفيظ ومراجعة النوت الموسيقية لكل فتاة، وذلك على خلاف مايسترو المبصر، حيث يتم اختيار المقطوعة الموسيقية ثم يقرأ العازفون النوت الموسيقية الموضوعة أمامهم.
ما يميز أولئك الفتيات هو مزجهن بين القدرة على عزف الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى العربية المتطورة في الأوركسترا، وبينما هناك ضرورة لوجود مايسترو للموسيقى الكلاسيكية لقيادة الأوركسترا، فيُعد عزف الفتيات لهذا النوع من الموسيقى غيباً من الألف إلى الياء أشبه "بالمعجزة الإنسانية".
فيتذكر "عثمان" واقعة حدثت لقائد الأوركسترا أثناء رحلة إلى النمسا عندما تعجب مهندس الصوت من عدم وجود نظام صوت خاص لقيادة الفتيات وأنهن يعزفن عن طريق الحفظ.
هناك صعوبة في وجود "مايسترو كفيف"، وذلك "لعدم وجود نوت موسيقية مكتوبة ببرايل للمايسترو"، وفقاً لرأي "عثمان" الذي يتمنى زيادة اهتمام الدولة بالأوركسترا؛ لأنهن دليل على حضارة البلاد وذلك لأن عزفهن الموسيقى الكلاسيكية بهذا المستوى دليل على أن الدولة متحضرة، موضحاً أن المعهد مبني على التبرعات أو حصوله على آلات هدايا من الخارج.
عزفت "مريم" في النمسا وألمانيا وفرنسا واليونان ومالطا، وتشعر بالسعادة عندما تعزف لحناً تحبه وعندما يتفاعل معها الجمهور وعند تواجدها مع زميلاتها العازفات.
لا تمتلك الفتاة - التي تعيش في الجمعية الموجودة في حي مصر الجديدة - أمنيات مستحيلة التحقق، فكل ما تتمناه أن يستوعب الآخرون الثقافة التي تقدمها هي والعازفات، وأنهم مثل الأشخاص الطبيعية لا يواجهون أي مشكلة بل منحهم الله أشياء ربما لا يمنحها لآخرين.