اعتادت إدارة بايدن التحرك في الشرق الأوسط كرد فعل وعدم مبادرة، خاصة إذا تعلق الأمر بأمن إسرائيل، باعتباره خطا أحمر غير مسموح بتجاوزه.
وقد برز ذلك في جولة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في الشرق الأوسط، مؤخرا، والتركيز على مسألة إيران بالأساس، مع تناول ملف النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي سريعا، والاستماع لبعض الرؤى في القاهرة و"رام الله"، ما يؤكد أن الإدارة الأمريكية تريد ضبطا لوضع الأراضي الفلسطينية بما لا يؤثر في استقرار الشرق الأوسط، مع التنسيق بين إسرائيل والفلسطينيين، والذين طرحوا تصورا محددا لوقف الإجراءات أحادية الجانب من قبل إسرائيل، وتجميد خطط الترويج للبناء الاستيطاني في الضفة الغربية، ووقف اقتحامات الجيش الإسرائيلي للمدن الفلسطينية، ووقف اعتداءات وعنف المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وإلغاء العقوبات التي أعلنها الكابنيت الإسرائيلي، بما في ذلك اقتطاع أموال الضرائب، وتقديم أفق سياسي لحل النزاع، وتأكيد الخطاب الأمريكي، الذي تركز في تأييد حل الدولتين، وإعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس، وإعادة تخصيص الأموال المستحقة في وكالة "الأنروا".
تشير كل التوقعات إلى أن الإدارة الأمريكية تريد تحقيق إنجازات سياسية عاجلة في ملف الشرق الأوسط، تخوفا مما هو قادم، ومحاولة روسيا والصين ملء الفراغ، الذي تركته الإدارة الأمريكية منذ سنوات، حين ركزت على منطقة جنوب شرق آسيا كأولوية استراتيجية، ومن ثم فإنها تحاول الآن العودة بمنطق عاجل، ومحاولة السيطرة على المشهد غير المنضبط، ودفع إسرائيل لعدم الاندفاع لأي مواجهة، سواء في الأراضي المحتلة من جانب، وتجاه إيران من جانب آخر، بدليل قيامها بالتحرك على مسارين، سياسي بدا من تتالي زيارات المسؤولين الأمريكيين، كمستشار الأمن القومي جاك سوليفان، ومدير المخابرات المركزية ويليام بيرنز، ثم وزير الخارجية بلينكن، في إشارة لا تغيب بأن الإدارة الأمريكية تعمل على كل المسارات، مع وضع ترتيب عاجل لما هو قادم من تطورات تتعلق بالملف الإيراني في ظل خط عام ما زال يركز على أن الحرب الروسية المستمرة في أوكرانيا ستكون لها ارتداداتها على الإقليم، وأن المصالح الأمريكية الإسرائيلية مرتبطة بشبكة وثيقة من الروابط الاستراتيجية، يدعمها الدافع "العقائدي"، الأمر الذي يجعل الرؤية الأمريكية إليها متباينا عن النظر إلى أي حليف آخر.
فهذه النظرة إلى إسرائيل تُبنى على أساس أنها بلد صديق، ديمقراطي، وحليف للولايات المتحدة.
في المقابل، تضع إسرائيل الولايات المتحدة في قلب نظامها الاستراتيجي، الذي يقوم على الحصول على العتاد العسكري الأكثر تقدما بسعر خاص، وإشراك الولايات المتحدة في أمن الشرق الأوسط، وجعلها تقدم ضمانات أمنية موثوقة أكثر بين الفترة والأخرى.
في هذا الإطار، من الواضح أن الإدارة الأمريكية لا تزال تتكشف مواقفها للتعامل البنّاء، مع عدم الذهاب إلى استراتيجية "من أعلى"، بمعني عدم طرح رؤية خاصة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو حتى بإيران، حيث لم تطرح الإدارة مقاربة محددة في الملفين، بل اعتمدت على أفكار متداولة واكتفت بممارسة أكبر قدر من الضغوطات على الجانب الإسرائيلي، مع تحميل الأطراف العربية الوازنة مثل مصر والأردن إدارة المشهد وممارسة دور الوسيط الفاعل، وهو ما أسماه وزير الخارجية الأمريكية "الشريك التفاعلي القادر على أن يواجه أي صراع يمكن أن يجري في غزة أو (رام الله)"، مع وضع الأولوية للملف الإيراني، وهو ما يروق للشريك الإسرائيلي بالأساس، والذي يسعي للحصول على أعلى عائد من الإدارة الأمريكية، وبناء توافقات عامة تركز في استمرار التعاون الأمريكي الإسرائيلي في ملف إيران، والتعاون الإقليمي، والعمل على ضم دول أخرى لمسار ما يجري في منظومة العلاقات العربية الإسرائيلية الراهنة والمتوقعة.
السؤال: ماذا بعد؟
وهل هناك مسارات محددة ستعمل عليها الإدارة الأمريكية بعد زيارة بلينكن للشرق الأوسط؟
الواضح أن هامش المناورة المتاح للإدارة الأمريكية يبقى محدودا في ظل التصعيد، والطريق المسدود، الذي وصل إليه النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
ومن المتوقع إحراز تقدم ضئيل على مستوى خفض التصعيد، حيث تسعى واشنطن إلى التواصل مجددا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، والإعلان الكامل عن دعم الإدارة الأمريكية للحفاظ على التفوق النوعي لإسرائيل في المنطقة، مع التركيز على أن الولايات المتحدة وإسرائيل متحدتان ضد إيران، وضد كل من يحاول زعزعة استقرار المنطقة.
وستتحرك الولايات المتحدة، بعد إتمام زيارة بلينكن، تجاه الأطراف المعنية والرئيسة، خاصة تجاه السلطة الفلسطينية، لمحاولة إقناعها باستئناف الاتصالات الأمنية، ومحاولة إقناع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأن عليه التجاوب ما مع يُطرح، وإلا تعم الفوضى الإقليم بأكمله، وليس مدن الضفة فقط، وإقناعه كذلك بالتمهل في نقل الملف الفلسطيني للواجهة الدولية، كما سيعمل الراعي الأمريكي على خطة أمنية ودبلوماسية، والوعد بتقديم تسهيلات لسكان الضفة الغربية، والضغط المخطط على الحكومة الإسرائيلية لتقديم قائمة تحفيزية، ليس للضفة فقط، وإنما أيضا لقطاع غزة.
في المجمل، تبقى إيران على رأس الأولويات بين واشنطن وتل أبيب، كما أن قضايا وتدابير عاجلة قد تكون مرحلية، خاصة في المدى القصير، ومنها تعليق الإجراءات الأمنية ووقف هدم منازل الفلسطينيين المتهمين بالقيام بـ"أعمال عنف" ضد الإسرائيليين، وتخفيف حدة المواقف السياسية المتطرفة، مع الإدراك التام بوجود فجوة بين تصريحات الرئيس بايدن ومساعديه، وبين سياساتهم وإجراءاتهم الفعلية، والتي لا تقتصر على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل تتخطاه إلى قضايا أخرى في الشرق الأوسط، مع التأكيد أن مسؤولي إدارة بإيدن لديهم تحفظات على رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، نفسه، مستشهدين بمواجهاته المتعددة مع الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، حول إيران والشرق الأوسط، وقضايا أخرى متعددة، وأن نتنياهو "لا يحظى بثقة الديمقراطيين إلى حد كبير".
الإشكالية الكبرى المطروحة أن يعود الوزير الأمريكي بلينكن إلى واشنطن مدركا مثله مثل كل الذين التقى بهم من مسؤولين في الشرق الأوسط أن محادثاته لن تغير أي شيء على أرض الواقع، ويبقى التوتر قائما ومحتملا في المدى القصير، بدليل ما أعلنه وزير الأمن الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، خلال لقائه عددا من المستوطنين، بأنه سيعمل على "تسليح كل إسرائيلي أثناء زيارة الوزير الأمريكي بلينكن".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة