غسان كنفاني.. "ابن موت" كرس إبداعه للدفاع عن حق الحياة
أدب غسان كنفاني يعد مؤشرا بيانيا لدراسة الشخصية الفلسطينية، ومدى تفاعلها مع فكرة التهجير انطلاقا من تجربته الذاتية.. ما حكايته؟
تحل ذكرى ميلاد أيقونة الأدب الفلسطيني غسان كنفاني، الذي ولد عام 1936، واغتالته إسرائيل في 8 يوليو 1972 ضمن خططها لتصفية المناضلين الفلسطينيين، ليتحول بعدها رمزا للمقاومة، وكان أول من صك تعبير "أدب المقاومة" في فلسطين بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967.
وعلى الرغم من أن عمره لم يزد عن 37 عاما عند اغتياله إلا أن رصيده من الأعمال الفكرية والإبداعية كان غزيرا وكفيلا بتخليد اسمه إلى الأبد، حيث أصدر 18 كتابا، وكتب مئات المقالات والدراسات في الثقافة والسياسة الفلسطينية، وأعيدت طباعة أعماله عشرات المرات.
ولا تزال أعماله إلى اليوم واحدة من أكثر المؤلفات العربية مبيعا، وتُرجمت إلى 17 لغة ونُشرت في أكثر من 20 دولة، وتحولت اثنتان من رواياته إلى فيلمين سينمائيين، قام بإخراج أحدهما المخرج المصري البارز توفيق صالح بعنوان "المخدوعون"، الذي تحولت الجمل الحوارية فيه إلى مأثورات شعبية.
وتحظى أعماله الأدبية التي كتبها بين عامي 1956 و1972 بفرص جديدة في القراءة بفضل شغف الشباب الدائم بسيرته الدرامية، حيث تجسد حياة كنفاني مثالا حيا على إمكانية التلاحم بين هموم المثقف الوطني وسعيه لتحرير بلاده، إلى جانب قدرته على إنتاج أعمال إبداعية ذات قيمة فنية عالية، لا تتورط في الصيغ التعبيرية الجاهزة وتنجو من المباشرة والنزعة التوثيقية.
منذ مراهقته انخرط غسان كنفاني في أشكال المقاومة الفلسطينية، آملا بتحرير فلسطين، فتفتح وعيه على نكبة 1948 وعانى مع أسرته من أثمانها القاسية.
ولد في عكا، شمال فلسطين، وعاش في يافا حتى 1948، وأجبر بعدها على اللجوء مع عائلته إلى لبنان، ثم سوريا، لكنه عاش ودرس وعمل في دمشق، ثم الكويت التي عمل فيها بالتدريس، وقت أن كانت حاضنة لأصوات مهمة في الثقافة الفلسطينية بفضل عمق تأثير حركة القوميين العرب هناك.
مرت أفكار كنفاني بمنعطفات كثيرة، وصنعت منه مثقفا فاعلا بفضل موهبته الاستثنائية وبفضل تأثير جورج حبش على شخصيته ومع تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ذات النزعة اليسارية الراديكالية، بالقياس لعمل بقية الفصائل الفلسطينية الأخرى، كان كفاني من أبرز قادتها.
وفي عام 1967 أسس مجلة ناطقة باسمها حملت اسم "مجلة الهدف" وترأس تحريرها، إلى أن استشهد فيها مع ابنة أخته "لميس"، في انفجار سيارة مفخخة على أيدي عملاء إسرائيليين.
وبالإضافة إلى القيمة الفنية في أعماله رسمت طريقة حياته ملامح مختلفة لنضاله اليومي، وكان مثار إعجاب الشباب العرب في مختلف العواصم، لأنها أكدت التماهي التام مع صورة "البطل الرومانسي"، ثم جاءت القصائد التي كرست كلها لرثائه لتعمل على تعزيز هذه الصورة.
فقد كتب الشاعر عز الدين المناصرة مرثية بعنوان (تقبل التعازي في أي منفى)، أما الشاعر محمود درويش فقد كتب "لدى قراءة كنفاني نكتشف، أولاً ودائماً، أنه في عمق وعيه كان يدرك أن الثقافة أصل من عدة أصول للسياسة، وأنه ما من مشروع سياسي دون مشروع ثقافي، لعل المسعى الأهم لبحوث كنفاني الأدبية هو ذلك المتمثل في ترسيخ أسس ولادة الفلسطيني الجديد، لجهة التأني عن الإنسان المجرد والفلسطيني المجرد والاقتراب من الإنسان الفلسطيني الذي يعي أسباب نكبته، ويدرك أحوال العالم العربي ويعرف أكثر ماهية الصهيوني الذي يواجهه، وهذه المهمة لا تستطيع أن تقوم بها إلا ثقافة في مفهومها النقدي، المتجاوز لما هو سائد، والذي يقطع مع القيم البالية".
وظلت رسائله مع الكاتبة غادة السمان، التي تم الكشف عنها عقب اغتياله، واحدة من أبرز نصوص الحب المتبادل في تاريخ الأدب العربي الحديث، وتكاد في أهميتها تتجاوز رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة.
وعلى الرغم مما تضمنته تلك الرسائل من حب غامر، إلا أن الخط الدرامي في حياة غسان أهدى له مصادفة أخرى، حيث تعرف في يوغوسلافيا في عام 1961 على فتاة كانت من أعضاء الوفد الدنماركي تعمل مدرسة للأطفال، وتحدث معها عن قضية بلاده، واستطاع إقناعها بالمجيء وزيارة العالم العربي للتعرف على طبيعة القضية الفلسطينية.
وبالفعل زارت دمشق وبيروت، ولم تمض على لقائهما الثاني 10 أيام إلا وكانت (آن) زوجة له، حيث تم زواجهما بتاريخ 19 أكتوبر 1961 ورزق منها بولدين هما فايز وليلى.
وعقب رحيله تولت بإخلاص إحياء تراثه وتصنيف مقالاته والكشف عن أعماله غير المنشورة، ومنها روايته "برقوق نيسان"، التي توصف بأنها غير مكتملة.
حظي غسان كنفاني عقب وفاته بعدة تكريمات وجوائز، من أهمها جائزة منظمة الصحفيين العالمية في 1974، وجائزة اللوتس في 1975، ووسام القدس للثقافة والفنون في 1990.
ويصلح أدب غسان كنفاني مؤشرا بيانيا لدراسة الشخصية الفلسطينية، ومدى تفاعلها مع فكرة التهجير، انطلاقا من تجربته الذاتية، حيث تصف روايته المهمة "عائد إلى حيفا" رحلة مواطني حيفا في الانتقال إلى عكا.
وترصد "أرض البرتقال الحزين" رحلة عائلته من عكا وسكناهم في الغازية، بينما عكست أيقونته الروائية "رجال في الشمس" ضياع الفلسطينيين في صحراء الواقع.
وتنقل روايتاه "أم اسعد" و"ما تبقى لكم" طبقات مختلفة من الوعي بالماسأة الفلسطينية، وصور التفاعل معها داخل الذاكرة الفلسطينية، ما بين واقعها اليومي وماضيها الموروث.