"لكل المقهورين أجنحة" يكشف وجه الناقدة رضوى عاشور
كتابة رضوى تقوم على الإيمان بقيمة النقد المعياري والجمالي، وضرورة انطلاق الكاتب من زاوية أقرب إلى مفاهيم الالتزام الجمالي والسياسي
يكشف كتاب "لكل المقهورين أجنحة"، الذي أصدرته دار الشروق المصرية للكاتبة الراحلة رضوى عاشور عن وجه الناقدة الذي غيبته الشهرة بينما نالتها كروائية في السنوات الأخيرة، وقفزت بمؤلفاتها إلى قائمة أعلى المبيعات، حيث عرفت إقبالا هائلا من القراء في أعمار مختلفة.
وكما تشير المقدمة فإنها "يمكن أن يكون ما يحدث استكمالا لدرجات الضوء القادم من شخصيتها، وهو الضوء المطل من اشتباكاتها مع النظرية النقدية وبعض قضايا النقد التطبيقي، إضافة إلى انشغالاها كمثقفة نقدية وثيقة الصلة بالشأن العام سياسيا وثقافيا.
وتخلص العبارة التي كتبها زوجها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي عقب وفاتها سيرة رضوى عاشور، إذ قال: "ابتسامتها رأي، وموضع خطوتها رأي، وعناد قلبها رأي، لأن رضوى جمالها رأيها ورأيها جمالها".
ويأتي هذا الكتاب ليقدم أدلته على صحة ما كتب البرغوثي ليؤكد أناقة ما كتبت رضوى.
وينقسم الكتاب إلى فصول أو أبواب كبرى، الأول يتضمن مقالاتها في اللغة والأدب، والثاني ما كتبته حول فلسطين، والثالث قضايا الجامعة، والرابع مرثيات كتبتها لرفاق وأساتذة كانوا إلى جوارها، والخامس الكلمات التي قدمتها في الاحتفالات التي كرست لتكريمها، فضلا عن المقالات التي كتبتها بالإنجليزية وتولت زميلتها فاتن مرسي ترجمتها إلى العربية وتحقيق تواريخها.
ورضوى عاشور روائية وأكاديمية مصرية بارزة (26 مايو/أيار 1946 - 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2014)، عملت أستاذة للأدب الإنجليزي المقارن بجامعة عين شمس، وتركت مؤلفات روائية ونقدية بارزة منها "ثلاثية غرناطة، قطعة من أوروبا، الطنطورية، أثقل من رضوى"، وكانت من بين طليعة جيل الستينيات في العالم العربي.
وتقوم كتابة رضوى الناقدة على الإيمان بقيمة النقد المعياري والجمالي، وضرورة انطلاق الكاتب من رؤية العالم من زاوية أقرب إلى مفاهيم الالتزام الجمالي والسياسي في آن واحد.
وتعبر صاحبة الكتاب عن أعقد القضايا بلغة سردية بسيطة، فهي دائما تبدأ من حكاية لتأصل رؤيتها وتصل بها إلى القارئ في قالب أنيق، ففي أول نصوص الكتاب مقال يبدو أقرب لشهادة عن تجربتها الروائية تبدي فيه انحيازا لمهارة الحكي، والقدرة على جذب انتباه القارئ وإثارة رغبته في متابعة ما يحكى شغفا بمعرفة المزيد.
وتعدد صاحبة "غرناطة" النماذج التي تعتقد أنها حافلة بأنماط من الحكي، سواء كانت شهادة شخصية أو مصادر تاريخية، وتخلص منها إلى أن ميزة الرواية تأتي لأنها "فن مفتوح مرن فضفاض أقرب لحوت الأسطورة في قدرته على ابتلاع أجسام كاملة، بطريقة تسمح ببنية الرواية بأشكال مختلفة في المزج بين التقنيات والوسائط ضاربة المثل برواية اسم الورد لإمبرتو إيكو التي تسقط الحدود بين النص وخارج النص".
وتبدي الكاتبة انحيازا لفن الرواية لأنها ذات شكل ديمقراطي يتحمل تقاطعات كثيرة بين التاريخ والمتخيل الواقعي، تتقاطع فيه الحدود بين ما أنشأه الكاتب الفرد واهما أنه يملكه، وبين زمن تاريخي أرحب وأعقد لا يملك المؤلف الفرد التحكم في مساراته.
وتشير عاشور إلى إيمانها بأن الرواية العربية في القرن الحالي مفتوحة على إمكانيات تجريبية هائلة وعلى مواهب لديها قدرة ابتكار أشكال جمالية جديدة تفي بحاجاتهم للإحاطة بتجاربهم بعد أن سقطت الحدود بين الأنواع الأدبية.
وتضرب عاشور مثالا بكتاب "الساق على الساق فيما هو الفارياق"، لأحمد فارس الشدياق الذي نشر في باريس عام 1855، وتعتقد أنه أهمل من الباحثين العرب ولم ينظر إليه كرواية رغم إقرار البعض بقيمته الفنية كإنجاز أدبي.
وتقر عاشور بأنه كتاب شامل يجمع بين السيرة وأدب الرحلات وكتب غرائب اللغة، مؤكدة أن ميزته الأهم أنه فتح بابا للقص العربي الحديث رغم إهمال الروائيين له وعدم نيله ما يستحق، موضحة أنه ربما كان الكاتب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي هو أكثر الكتاب العرب استثمارا لإمكانيات هذا النص وعوالمه في روايته الشهيرة "المتشائل".
وفي مقال آخر تجمع عاشور بين ثلاثة أصوات نقدية جذرية، الأول هو فرانز فانون صاحب الكتاب الشهير "معذبو الأرض"، وإدوارد سعيد الناقد الفلسطيني الأمريكي البارز صاحب كتاب "الاستشراق"، والناقد الباكستاني إقبال أحمد، وكل هؤلاء تم تصنيف ما كتبوه تحت عنوان "نقاد ما بعد الاستعمار" بسبب شعورهم المشترك بوطأة الإمبريالية.
وتعتقد "عاشور" أن إقبال أحمد الذي اشترك مع "فانون" في النضال لصالح ثورة الجزائر، وصادق إدوارد سعيد، كان يشكل حلقة وصل تتيح استمرارية نموذج المثقف الناقد المرتبط بقضايا التحرر، وهو انحياز آخر تبديه رضوى عاشور في اعتناق فكرة الالتزام التي كانت دائما دافعا لعملها الذي لم يتوقف أبدا.
والتزاما بالمسار الأكاديمي الذي أوجده سعيد ويتعمق حضوره في الكتابة للدرجة التي يبدو معها أساسا صلبا لمعظم ما يرد فيه من أفكار، فهو "البطل الذي يتجدد حضوره"، في مسارات مختلفة يجمعها الكتاب.
ويشمل الكتاب أيضا إضاءات حول نصوصها الروائية التي نالت شهرة كبيرة ومنها "الطنطورية" التي نشرت عام 2010.
وتشير عاشور إلى أنها تتعلق بكتابة رواية تتقاطع دائما مع التاريخ، موضحة أنها تتصدى لنوع من التأريخ رغم أنها ليست مؤرخة، ولكنها تعمل بمنطق الروائيين حيث تتحول الوقائع إلى روح أو حياة، وتعترف أنها لا تكتب تاريخا لكنها تريد أن تدخل التاريخ لأنها تريد أن تصبح للحكاية ذاكرة ووعيا وحسا وانتباها وخبرة.
ويتجدد سؤالها عن علاقة التاريخ في مساحات أخرى من الكتاب، تقارب فيها من موقع أكاديمي، الإضافات التي أوجدها التاريخيون الجدد في حقل الكتابة الأكاديمية والابداعية، لافتة إلى أنها تؤمن بأن التاريخ نص والنص تاريخ، وكلاهما محكوم بشروط اجتماعية وتاريخية تحدد أشكال الكتابة وأساليبها.
وفي مقاطع أخرى، تكشف خبرتها في كتابة "تقارير السيدة راء"، وهي نصوص إبداعية قصيرة تجمعها شخصية واحدة من حيث تكوينها الوجداني.
وتقول رضوى إنها حاولت توظيف شكل التقرير في إطار فني كشهادة على زمن بطلة روايتها، بينما لجأت في "قطعة من أوروبا" إلى كتابة نص أقرب الى التأريخ منه إلى الإبداع الأدبي الشائع والمعتمد على ابتكار أشكالا إبداعية جديدة تفي بالحاجة في ظل واقع مضطرب.
ويتضمن الكتاب أفكارا ورؤى مهمة حول أدب السجون في العالم العربي بصفتها كتابة تواجه الذاكرة الرسمية وتؤرخ للعلاقة بين السلطة ومعارضيها، كما تؤصل لحضور فلسطين في الأدب العربي ولقضايا الصراع العربي الإسرائيلي.
ويشمل الكتاب كذلك مجموعة من البورتيهات لنماذج استثنائية في تاريخ الثقافة العربية، منها الروائية المصرية لطيفة الزيات ونصر حامد أبوزيد وإحسان عباس، وعبدالعظيم أنيس، ومحمود أمين العالم، ونجيب محفوظ، بهدف الانحياز إلى أدوارهم في الثقافة الإنسانية ومواقفهم التي انحازت دائما للهامشيين.