"سوريات يروين" .. شهادات مروعة عن الثورة والحرب
سمر يزبك تروي في كتابها تاريخ سوريا كما عاشته 19 امرأة ويوثق الذاكرة الجمعية السورية التي تشرذمت بفعل الثورة والحرب بين بلدان متفرقة.
بصفحة داكنة كتب عليها إهداء موجع، افتتحت سمر يزبك كتابها التوثيقي "سوريات يروين" الصادر حديثا بداية هذا العام عن منشورات المتوسط-إيطاليا، قائلة: "إلى حفيداتنا وأحفادنا: كنا نتطلع إلى قامة مستحيلة، اسمها العدالة، لم نغلق الباب وراءنا، ولم نتركه للريح!".
عبر 278 صفحة من القطع المتوسط وبلغة أدبية رفيعة معبرة تروي يزبك مآسي نساء سوريا، تجسّد بكلماتها خفقات قلوبهن الراجفة ودموعهن، والحزن الدفين، والخوف من المستقبل؛ بل جسدت نظرات أطفالهن الحائرة والمتسائلة ومشاهد مروعة تتذكرها الناجيات من أهوال سوريا وجحيمها. إنه كتاب عن الذاكرة الجمعية السورية التي تشرذمت بفعل الثورة والحرب بين بلدان متفرقة.
الكتاب ينتمي للكتب التي توثق التاريخ الشفهي الذي يحمل الكثير من الخبايا والحقائق العارية التي لا يدونها التاريخ والمؤرخون وقراءة مرويات سمر يزبك، ويعد بمثابة رحلة إلى عمق الأزمة السورية وخلفياتها وأبعادها؛ بل هو قراءة في الدراما السورية مروية بضمير المتكلم.
يضم الكتاب خلاصة مجموعة حوارات، أجرتها يزبك مع 55 امرأة سورية في البلدان التي هاجروا إليها مثل تركيا وفرنسا وكندا ولبنان وبريطانيا وهولندا، كما لم تغفل توثيق مرويات نساء الداخل السوري، لكنها اختارت منها 19 رواية فقط، معللة ذلك بـ"الشبه المتكرر في تجارب النساء، والذي يظهر لنا جزءا من الجحيم الذي قاومته النساء السوريات بشجاعة".
تشير يزبك إلى أن الأولوية في الاختيار كانت لمسألة التنوع الجغرافي؛ لتشكيل مشهدية أوسع عن الذاكرة السورية. في مقدمة كتابها، تروي الكاتبة كيف راودتها فكرة الكتاب، قائلة:" بدأت الفكرة في منتصف عام 2015، عندما كنت أسافر بين المدن، وأدون حكايات السوريين الذين أصادفهم في المنافي. حصل هذا مصادفة، عندما التقيت أفراد عائلة سورية في أحد القطارات، وسمعت قصتهم ووجدت نفسي أكتب ما يروونه، ثم اكتشفت أنني أستطيع لمس سوريا البعيدة، من خلال هذه الحكايات. كان دافعي الأول هو اكتشاف سورية التي لم نعد نعرفها تماما" ويبدو أن الكاتبة أنها لم تكن تنوي "حراسة الذاكرة" السورية كما خيل إليها لاحقا" فالذاكرة التي ظننت أنني أكتب أحد وجوهها كانت متحولة ومتبدلة إلى درجة المرارة والتحمل الشاق".
حملت يزبك عدة دفاتر صغيرة وتنقلت ما بين مدن العالم تدوّن حكايات السوريين" كنت أصادف سوريين يعبرون المدن والقرى للوصول إلى وجهتهم في بلاد اللجوء. كنت أرى الخوف في عيون شبابهم ونسائهم، وذلك الفراغ الأبيض في تحديق أطفالهم".
تشير يزبك إلى أنها في أحيان أخرى كانت تتعمد السفر لأماكن محددة للقاء الناجين من البحر ومن المجازر. بعد أن تجمعت حكايات كثيرة في جعبتها وجدت نفسها تفكر في رواية التاريخ كما عاشته النساء لملامسة جزء من حقيقة التراجيديا السورية.
تقول: "خلال سنة كاملة، أحجمت عن لقاء العائلات، واحتفظت بالدفاتر الصغيرة المخبأة كجزء من تصوري عن خزان الذاكرة الجمعية، واكتفيت بتسديد وجهتي نحو النساء وهن يروين حكاية الثورة والحرب. لقد فعلت ذلك بشغف عارم، مدفوعة بسببين أساسيين لرواية الحكاية السورية." السبب الأول الذي كان دافعا لها في الكتابة هو أنها ذات يوم نسيت طريق العودة إلى بيتها بباريس فراودها هاجس النسيان وتأملت فيما إذا كان نسيانا جمعيا في المنفى؟!" ربما كانت تلك اللحظة من النسيان هي الدافع المحرك ليزبك والداعم لها في محاولة للإمساك بالزمن والتاريخ والهوية. أما السبب الثاني الذي تكشف عنه الكاتبة هو كما توضح "هو أحد طرائقي في المقاومة وجزء من إيماني بدورنا كمثقفين وكتاب في تحمل مسؤوليتنا الأخلاقية والوطنية تجاه العدالة وإنصاف الضحايا، والتي يتجلى أهم وجوهها في حربنا ضد النسيان".
- كيماوي سوريا.. يقتل أحلام الأطفال وثبات الكبار
- "العين" ترصد سيناريوهات الضربة العسكرية المحتملة على سوريا
اعتمدت يزبك على عدة طرق في توثيق الروايات والشهادات، منها جمع المعلومات عن النساء اللواتي خضن تجارب نضالية في الثورة، ووضعت يزبك ما يشبه الاستبيان في البحوث الميدانية في العلوم الإنسانية؛ حيث طلبت من جميع من التقت بهم الإجابة عن عدة تساؤلات محددة حول اشتراكهن في الثورة والأسباب والدوافع، ثم تترك لهن مساحة حرة للحكي عن تجربتهن الشخصية من منظور المقاومة والجندرة.
حرصت يزبك على تدوين الاسم الكامل لكل امرأة التقت بها وأيضا كنيتها رغم أنها ذكرت في بعض مقاطع الشهادات والمرويات أسماء حركية بناء على رغبة أصحابها. وبأمانة الباحث المدقق أعادت المؤلفة الشهادات إلى أصحابها لمراجعتها وتشير يزبك إلى صعوبة تلك المرحلة من الكتاب، قائلة:" كانت الصعوبة تتمثل في إجراء التوافق بين صورتهن عن أنفسهن وتجربة كل منهن، وبين تشكل الصورة الأخرى التي اكتشفنها بعد قراءة شهاداتهن. وتضيف: "كان علي اختيار نسق الحكاية المفصلي فيها، بعد أن وجدت أن كل امرأة منهن تحتاج إلى كتاب كامل، لما تحمله التجارب من تفاصيل مهمة ونادرة على المستوى الإنساني! لذلك بقيت تفاصيل كثيرة كانت جديرة بالذكر خارج إطار هذا الكتاب. وأرجو أن يتاح لكل واحدة منهن في حال قررت كتابة سيرة حياتها، أن تخرج إلى العلن".
اختارت المؤلفة نساء من الطبقة الوسطى تتراوح أعمارهن ما بين العشرين والسابعة والسبعين، غير أن يزبك أشارت إلى أن كتابها تغيب عنه أصوات نساء المخيمات واللاجئات في الخيام، مشيرة إلى أن رواياتهن تحتاج إلى "سردية مختلفة، وكتاب آخر، أرجو أن يتاح لي الوقت والعيش لإنجازه".
نساء سمر يزبك لهن صوت قوي برغم ظروفهن السيئة وعدم ووضوح المستقبل أمامهن، تقول:" لا يعملن على تعزيز فكرة الضحية، وعلى تصوير أنفسهن ضحايا، كأن المقاومة بالنسبة إليهن تتناقض مع مفهوم الضحية، وما تنطوي عليه من تقوقع واعتناق للجروح، وكذلك مع فكرة البطولة والتجبح بها. وهذا المنطق يتعارض مع منطق المجتمع الذي يتراوح بين حدي الضحية والبطولة. فالمجتمعان العربي والغربي، عبر أدوات الإعلام وغيرها، بصورة عامة، يسهل عليهما أكثر وضع المرأة ضمن إحدى هاتين الخانتين، خصوصا الخانة الأولى، كما لو أن المرأة هي ضحية بالضرورة".
تراجيديا حلب، روتها زين التي تم اعتقالها على أحد الحواجز من قبل " الشبيحة" الذين نزعوا عنها ثيباها بالكامل وقاموا باهانتها وانتهاك جسدها وتم سجنها مع نساء أخريات تم اغتصابهن وفرض عليهن مشاهدة أفظع الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية من قتل وتعذيب ضد فتيات وشبان.
أسلوب يزبك المميز في الصياغة يمنع القارئ أن يفلت الكتاب من بين يديه ويعكف على قراءة كل تفاصيله ومعايشة معاناة كل بطلة قررت رواية قصتها ليعرف العالم الفظائع التي ارتكبت بحق السوريين، هذه الشهادات التي تكشف كل ما حدث في سوريا من لحظة اشتعال الثورة فيها. وتروي منى من دير الزور معاناتها من اجل استكمال دراستها الجامعية ومحاولاتها المستميتة لعبور الحواجز وعبورها البحر وتعرضها لمخاطر عصابات الاتجار بالبشر وتهربيهم عبر تركيا وأوروبا.
أما مريم فتروي تجرب اعتقالها وتعذيبها واجبارها على تغيير اسمها وعدم لفظ اسمعا الحقيقي، بينما لينا محمد فكان المحققون ينادونها بصيغة المذكر، وتتعدد القصص لكن القاسم المشترك فيها هو الاغتراب والقهر والذل.
يحسب للروائية والكاتبة سمر يزبك جهودها في توثيق كل هذا الكم من المآسي وأيضا اللفتة الإنسانية التي قدمتها في بداية كتابها حيث نوهت المؤلفة في صدر الكتاب أن أرباحه ستعود لمنظمة" النساء الآن من أجل التنمية".
aXA6IDEzLjU4LjI4LjE5NiA=
جزيرة ام اند امز