بريكست.. خيارات اللحظات الأخيرة واختبار النظام السياسي البريطاني
زخر الأسبوعان الماضيان بالعديد من الإجراءات التي تعكس حالة الشد والجذب غير المسبوقة بين البرلمان والحكومة في بريطانيا.
يبدو المشهد السياسي البريطاني في اللحظة الحالية شديد التشابك والتعقيد بسبب تطورات ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" التي تركت بصماتها ليس فقط على العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وإنما امتدت آثارها لتشمل جذور العملية السياسية في بريطانيا ذات النظام السياسي العريق، على نحو يجعل كثيرين يتوقعون أن تضع هذه الأزمة الديمقراطية البريطانية على المحك، لاسيما في ضوء لجوء الأطراف الفاعلة في هذا الملف إلى تبني إجراءات قاسية وغير معتادة في مواجهة بعضها بعضا.
خريطة الانقسامات بين الأطراف الفاعلة
تدور التفاعلات التي يشهدها ملف بريكست في اللحظة الراهنة بين عدد من الفاعلين الذين تتباين مواقفهم تجاه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هم:
- رئيس الوزراء بوريس جونسون:
وصل جونسون لرئاسة وزراء بلاده خلفا لتيريزا ماي التي اضطرت للاستقالة بسبب ملف بريكست، وقد خلفها جونسون الذي يعد ممثلا لتيار الساسة البريطانيين الذين يرون وجوب احترام رغبة الناخب البريطاني في الخروج من الاتحاد الأوروبي، سواء كان الخروج باتفاق أو دونه، ورغم تأكيد جونسون إنه يرغب في إبرام اتفاق جديد مع الاتحاد الأوروبي لكنه تعهد بأن يكون الخروج في الموعد المحدد له أي 31 أكتوبر 2019 حتى لو كان ذلك بلا اتفاق، ما يعني خروج المملكة المتحدة فورا من الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة الأوروبيين.
بيد أن جبهة جونسون تعاني غيابا للتماسك الداخلي، فمنذ البدء، واجه جونسون معارضة من نواب حزبه القلقين من أن تهديده بالخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق مع بروكسل، يعرض البلاد لأضرار اقتصادية خطيرة، ومع تصاعد الخطوات التي تبناها جونسون لتحقيق هدفه، تفاقمت المعارضة الداخلية التي يلقاها إلى حد ما اعتبره البعض ثورة داخلية قادها عدد من كبار أعضاء حزبه (المحافظين) في محاولة منهم للحيلولة دون مساعيه لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، حيث صوت 22 نائبا برلمانيا من المحافظين لصالح تشريع من شأنه تأجيل بريكست حتى 21 يناير 2020، وشملت قائمة المتمردين ضد جونسون عدداً من الرموز المهمة في حكومتي تيريزا ماي وديفيد كاميرون، منهم: فيليب هاموند وكين كلارك وزيرا المالية السابقين، ديفيد غوك وزير العدل السابق، دومينيك غريف المدعي العام السابق. كما خسر جونسون زعيمة حزبه في اسكتلندا روث ديفيدسون بسبب قرار تعليق عمل البرلمان. فيما جاءت الصفعة الأكبر لجونسون مع استقالة شقيقه جو من الحكومة، مؤكداً عبر تويتر أنه يقدم "الولاء الوطني" على "الولاء العائلي".
- البرلمان البريطاني:
يأتي البرلمان البريطاني على رأس تيار سياسي يرى أنه يجب التريث في الخروج من الاتحاد الأوروبي، مؤكدا أن الناخب البريطاني وإن كان صوت لصالح الخروج، لكن لم يصوت لصالح خروج دون اتفاق قد يضر بمصالحه الاقتصادية والاجتماعية. وقد صوت أعضاء البرلمان أكثر من مرة لإظهار معارضتهم للخروج بلا اتفاق.
رفض البرلمان البريطاني (3 مرات) خطة الانفصال التي كانت رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي قد توصلت إليها مع الاتحاد الأوروبي ما أدى في نهاية المطاف لإسقاطها، ولا يزال البرلمان على نهجه المعارض للخروج دون اتفاق يرضيه، ما يدفعه لسلسلة من المواجهات مع حكومة جونسون.
- الرأي العام:
شكل الرأي العام في المملكة المتحدة رقما مهما في معادلة خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي، وهو ما تبلور مع نتائج الاستفتاء العام في 2016، وجاءت نتائجه لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي بنسبة 51.9 %، وإعمالا لقواعد الديمقراطية البريطانية، تنحى الرأي العام جانبا تاركا للساسة مهمة تنفيذ نتيجة الاستفتاء، غير أن هناك مؤشرات على بدء تكون تحركات شعبية للتعبير عن آراء الجماهير البريطانية بشأن قضية البريكست، ما تجلى مع خروج عشرات الآلاف من المواطنين لشوارع لندن وإدنبره وغيرهما من المدن الكبرى للاحتجاج على قرار تعليق عمل البرلمان، كما دشن نشطاء بريطانيون حملة توقيعات ضد قرار تعليق البرلمان، جمعت نحو مليون ونصف المليون توقيع، ما يؤهلها للمناقشة أمام البرلمان. وفي السياق ذاته قدم قانونيون طلب مراجعة قضائية للمحاكم بشأن قرار تعليق البرلمان.
- الشركاء الأوروبيون:
يعد موقف مؤسسات الاتحاد الاوروبي من أبرز العوامل المؤثرة في ملف بريكست، فرغم تصريحاته بإمكانية النظر في أي مقترحات بريطانية جديدة، فإن الاتحاد الأوروبي أكد مِرارا أن الباكستوب (تدبير يستهدف منع أي احتمال لقيام نقاط حدودية أو نقاط تفتيش بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا) هو جزء حاسم من أي اتفاق في هذا الصدد، ما يضع أي رئيس وزراء بريطاني في مأزق حقيقي لأن قبول ذلك الشرط يضع علامات استفهام أمام السلامة الإقليمية للمملكة المتحدة وسيادتها على أراضيها.
جدير بالذكر أن جونسون يؤكد ثقته بأنه سيحصل على اتفاق مع الاتحاد الأوروبي بنهاية أكتوبر، غير أن المفوضية الأوروبية تتحدث عن تزايد احتمالات خروج لندن بلا اتفاق مؤكدة إنه لا توجد بعد "مقترحات ملموسة" من لندن. فيما يرى مراقبون أن الاتحاد الأوروبي تراوده شكوك حول جدوى تأجيل بريكست لـ3 أشهر إضافية؛ لأن ذلك لن يغير في "المشكلة" شيئاً. وتزداد خطورة هذا الموقف في ظل ضرورة بموافقة جميع الدول الـ27 الأعضاء بالاتحاد على أي تمديد إضافي.
ملامح الاستقطاب بين الحكومة والبرلمان
زخر الأسبوعان الماضيان بالعديد من الإجراءات التي تعكس حالة الشد والجذب غير المسبوقة بين البرلمان والحكومة والتي وصلت لحد تبنى الجانبان تدابير قاسية غير معتادة في الحياة السياسية البريطانية، كان من أبرزها:
- تعليق عمل البرلمان: أعلن جونسون (28 أغسطس 2019) تمديد تعليق البرلمان حتى 14 أكتوبر، أي قبل أسبوعين فقط على الموعد المقرر لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بهدف تقليص الوقت المتاح للبرلمان لإفشال خططه المتعلقة ببريكست. هذا القرار وإن كان سليما من الناحية الدستورية غير أنه يوصف بافتقاد الكياسة السياسية؛ إذ سمح للمعارضة بوصف تحرك جونسون بأنه "انقلاب" و"إهانة فاضحة" للديمقراطية.
- الدعوة لانتخابات مبكرة: دعا جونسون لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة في 15 أكتوبر بأمل الحصول بعدها على أغلبية جديدة أكثر تماسكا، تسمح له بالتحرك بحرية قبل القمة الأوروبية التي ستعقد في 17 و18 أكتوبر. جاء ذلك عبر مذكرة طرحها على برلمان بلاده، غير أن المذكرة حصلت على تأييد 298 نائبا فقط أي أقل من أغلبية الثلثين المطلوبة لتبنيها في مجلس العموم.
- إصدار تشريع يعرقل الخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق: يرى مراقبون أن تحركات حكومة جونسون المناوئة للبرلمان، دفعت النواب إلى سرعة التحرك لإصدار تشريعات تقيد رئيس في تحركاته فيما يخص بريكست، ونجح البرلمان في هذا السياق في استقطاب نواب من حزب المحافظين، فقد نجح مجلس العموم البريطاني، يوم 4 سبتمبر، في تمرير قانون يمنع الحكومة البريطانية من الخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، حيث يُمهل جونسون حتى 19 أكتوبر للتوصل إلى اتفاق والنجاح في تمريره بالبرلمان، أو أن يتمكن من إقناع البرلمان بقبول الخروج من الاتحاد دون اتفاق، أما إذا لم ينجح رئيس الوزراء في أي من الخيارين؛ يصبح مجبرا بموجب هذا التشريع على أن يطلب من بروكسل تمديد مهلة الخروج حتى 31 من يناير 2020. مُرر القانون في 3 قراءات متتالية، كان آخرها بتصويت 317 عضوا (منهم 21 عضوا من حزب المحافظين الحاكم) لصالح القانون مقابل رفض 299 عضوا. ووفق المعنيين بالشأن البريطاني، تؤشر الطريقة التي صيغ بها القانون على رغبة البرلمان في السيطرة على مسار ملف بريكست خوفا من تحركات رئيس الوزراء بخصوص هذا الملف.
رؤية استشرافية
تعاني الحياة السياسة البريطانية الآن من موقف متناقض ومركب في الوقت ذاته، فالحكومة لا تريد إجراء انتخابات ولكنها تجد نفسها مجبرة على الدعوة إليها، أما حزب العمال المعارض الذي يطالب بهذه الانتخابات منذ سنوات يرفض إجراءها خوفا من إطلاق يد رئيس الوزراء في ملف بريكست، وإن كانت هناك بعض الترجيحات بأن تحركات حزب العمال المعارضة هدفت لضمان تمرير قانون "لا لعدم الاتفاق" عبر جميع الغرف الدستورية، قبل الحديث عن انتخابات مبكرة، بل وربما تتجه لتقديم مذكرة لحجب الثقة وإسقاط حكومة جونسون فيما بعد.
على الجانب الآخر هناك مؤشرات على اتجاه رئيس الوزراء جونسون إلى التهدئة بعدما فقد أغلبيته في مجلس العموم البريطاني وأخفق في الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، وهو ما تجلى مع موافقته على عدم عرقلة النص التشريعي المطالب بعدم الخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، حيث تعهدت حكومته بـ"السماح بأن يمر النص" بكل المراحل "في مجلس اللوردات"، رغم ذلك لا يزال جونسون يصر على إجراء انتخابات مبكرة أملا في أن تمنحه مجدداً الغالبية التي خسرها في البرلمان، ومن ثم يتوقع أن تقدم الحكومة مرة ثانية مذكرة لإجراء هذه الانتخابات، على أن يصوت عليها مجلس العموم قبيل تعليق أعماله، الإثنين، الذي يتوقع أن يكون يوما مهما في الحياة السياسية البريطانية.
aXA6IDE4LjE5MS4yMDAuNDcg
جزيرة ام اند امز