في المؤتمر السنوي الأخير لحزب المحافظين الحاكم، فتحت رئيسة وزراء بريطانيا، ليز تراس، النار على المعارضة ومَن وصفتهم بـ"الانفصاليين".. إضافة إلى "رافضي الإصلاح"، حسب تعبيرها.
ثلاث جبهات أشعلتها "تراس" في خطاب واحد دام أربعين دقيقة، ثم غرقت في التصدي للهجمات المرتدة، التي لم تنتهِ حتى الآن.
رئيسة الوزراء وجدت نفسها مضطرة للحديث مع النواب المعارضين في الحزب. استمعت لكل واحد منهم على حدة، وأنصتت جيدا لهؤلاء الذين يرغبون في استبدال "تراس" حتى قبل نهاية العام الجاري، وليس قبل انتخابات عام 2024.. تعددت أسبابهم أو حججهم، ولكن المشترك أن "تراس لا تمضي بالحزب والدولة إلى بر الأمان" برأيهم.
ما يوحّد هؤلاء هو خطة التعافي الاقتصادي، التي أعلنتها الحكومة ولا تزال "تراس" مصرة عليها.. فالخطة تثير مخاوف بشأن التأثير السلبي لخفض الضرائب في إيرادات الخزينة، وبالتالي تقليص الإنفاق على مشاريع البنية التحتية والخدمات في المملكة المتحدة.. ولكن الحكومة تروّج لخطتها كأفضل خِيار لدفع عجلة النمو نحو الأمام.
المعارضون داخل حزب المحافظين نقلوا المعركة مع "تراس" إلى لجنة 1922، التي تدير شؤون الحزب الحاكم، فوقفت رئيسة الوزراء تخطب دفاعا عن نفسها وخُطتها، في اجتماع للجنة عُقد تحت سقف البرلمان.
لم يزُل غضب الساخطين عليها، ولكنها ظفرت بفرصة لمواجهة ثانية وثالثة وربما رابعة معهم، خلال الأيام المقبلة.
من بين هؤلاء المعارضين لخطة الإنقاذ المصغرة، مَن يصنفون أيضا على قوائم رافضي الإصلاح الذي يمس بالدرجة الأولى إلغاء القوانين الأوروبية السارية في المملكة المتحدة بعد "بريكست".. فمشروع القانون، الذي قدمته الحكومة للبرلمان في هذا الصدد يوم 22 سبتمبر الماضي، أثار فزعا على الصعيدين القانوني والإجرائي.
"تراس" تريد "بَرطنة" القوانين الأوروبية، البالغ عددها نحو 2500 قانون، قبل نهاية العام المقبل.. وهناك وزارات، مثل الزراعة والبيئة، تحتاج إلى تعديل قانون كل يوم على مدار عام كامل كي تنجز المهمة.. أي إن العمل في هذه الوزارات لن يتوقف في عطلة نهاية الأسبوع ولا حتى في الأعياد الرسمية، كعيد الميلاد ورأس السنة.
"الرافضون للإصلاح"، وفق تصنيف "تراس"، يرون أن حكومة المحافظين الجديدة تستعجل إلغاء القوانين الأوروبية، التي نظمت العمل والحياة في البلاد لأكثر من 4 عقود، بينما كانت المملكة المتحدة عضوا في الاتحاد الأوروبي.. وهذه العَجَلة برأيهم إنما تنطوي على جانبين سلبيين لا بد من التوقف عندهما، والتحذير منهما قبل فوات الأوان.
ويتمثل الجانب الأول في إحلال الحكومة قوانين بريطانية أقل جودة محل القوانين الأوروبية.. وهو ما سيحد من تنافسية المملكة المتحدة، وقدرتها على الاستمرار كدولة متقدمة ومركز عالمي في قطاعي التجارة والاقتصاد.. أما الجانب الثاني فيعكس خشية النقابات والمنظمات من استغلال الحكومة مشروع "برطنة" القوانين الأوروبية من أجل تقليص حقوق العمال ومعايير بيئة العمل التي رسخها الاتحاد الأوروبي.
الحكومة تدافع عن نفسها بالقول إن الوقت قد حان لإتمام "بريكست". وهذا الدفاع بحد ذاته يزيد من قلق "الرافضين للإصلاح" ويعمق أزمة الثقة بـ"تراس".. فـ"استقلال" المملكة المتحدة أوروبيا يعني خططا خاصة في مجالات العمل والاقتصاد لا تراعي بالضرورة المحاذير البيئية، ولا تواكب خطط الاستدامة بكل أشكالها في القارة العجوز.
بعد المحافظين المعارضين و"الرافضين للإصلاح" يأتي "الانفصاليون"، الراغبون في تفكيك المملكة المتحدة، على قائمة خصوم "تراس".. ويتصدر هؤلاء "الحزب القومي الاسكتلندي"، الذي يمضي في خطته لتنظيم استفتاء جديد على انفصال إدنبرة ولندن قبل نهاية العام المقبل.. سواء كان ذلك عبر القضاء أو بموافقة طوعية من حكومة "تراس".
رئيسة الحكومة الاسكتلندية، نيكولا ستيرجن، خرجت إلى الإعلام قبل أيام لتقول إن الاستفتاء على الوِحدة مع بريطانيا قادمٌ لا محالة. وإنْ أخفقت في إقناع المحكمة العليا بالموافقة على إجرائه، فإن الحزب القومي الاسكتلندي سيجعل "طلاق لندن وإدنبرة" عنوانه الرئيس والوحيد في حملته الانتخابية للاستحقاق التشريعي منتصف عام 2024.
"ستيرجن" تريد أن يكون التصويت لحزبها خلال الانتخابات العامة بعد نحو عامين بمثابة استفتاء على فك الوحدة الممتدة لأكثر من 300 عام مع بريطانيا.. فإن ظفر الحزب القومي الاسكتلندي بالغالبية الساحقة من الأصوات، مضى للانفصال عبر موافقة برلمان إدنبرة، بغض النظر عن الحزب القائد للدولة ومجلس العموم في بريطانيا.
وفيما تنشغل "تراس" في مواجهة الجبهات الثلاث، يتمدد حزب العمال المعارض شعبيا ومناطقيا، بوصفه أكثر تماسكا ووحدة من "المحافظين".
وتشير استطلاعات الرأي الحديثة إلى أن "العمال"، بزعامة كير ستارمر، بات أكثر تفضيلا بين البريطانيين لقيادة الدولة والحكومة، والفارق بينه وبين "المحافظين" وصل إلى 20 نقطة.
ربما كانت رئيسة الوزراء بحاجة إلى الظهور في المؤتمر السنوي الأخير للحزب بهيئة "القائدة الشجاعة"، التي لا تخشى الخصوم.. ولكن هل كان تفجير كل هذه الجبهات هو الطريق الوحيد أمام "تراس" لتجنب السقوط بعد التداعيات الكارثية لخطتها الاقتصادية على سعر الجنيه الإسترليني وتنافسية السوق المالية في بريطانيا؟
صحيح أن الجبهات المعارضة لـ"تراس" لا يمكن أن تعمل معا لأن أهدافها تتباين إلى حدود التناقض.. ولكن يكفي أن تواصل كل جبهة مساعيها لإضعاف الحكومة ورفض خططها، حتى يتمكن حزب العمال المعارض من مواصلة تقدمه على حساب "المحافظين" في فرص الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات العامة في عام 2024.
الاتعاظ من تجربة السلف تبدو نصيحة جيدة لـ"تراس" اليوم، فرئيس الوزراء السابق، بوريس جونسون، لم ينجح في مواجهة الجبهات الداخلية عندما كثرت، رغم أنه تحصّن بالحرب الأوكرانية وحاجة البلاد، وأوروبا ككل، إلى وحدة الصف في مواجهة الروس.. ناهيك بأن "جونسون" لم يخطئ في سياساته، وإنما أخطأ في عدم التزام القوانين على مستوى سلوكه الشخصي.. ولكن كما يقول الروائي المصري والعربي الحائز على جائزة نوبل في الأدب نجيب محفوظ: "من الأخطاء ما لا يُجدي معه الاعتذار".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة