طالما هددت موسكو بأن استهداف جسر القرم يشكل خطا أحمر، فإن مرحلة ما بعد استهدافه تشكل منعطفا جديدا في الأزمة الأوكرانية.
فالجسر الذي دُشن عام 2018 على مضيق كيرتش، بكلفة تجاوزت ثلاثة مليارات وستمائة ألف دولار، يعد جوهرة البنى التحتية الروسية في الجنوب، إذ يتمتع بأهمية استراتيجية، حيث يعد الطريق الوحيد لنقل المعدات والإمدادات العسكرية الروسية إلى القرم، وهو الأطول في أوروبا "يبلغ طوله 19 كيلومترا"، وقد أطلق عليه "جوهرة التاج"، وهو بحق تحفة معمارية جعلت من ميناء ومدينة سيفاستوبول منطقة رائعة الجمال.
وعليه، فاستهداف جسر القرم نقل الأزمة الأوكرانية إلى مرحلة مفتوحة بلا قواعد، وقد تجسّد ذلك في الهجمات الروسية الأخيرة، التي طالت مناطق وقطاعات أوكرانية مختلفة، تراوحت بين المراكز العسكرية والأمنية، ومقار القيادة، وأنظمة الاتصالات والطاقة، في مؤشر إلى أن روسيا ستتجه إلى اتباع سياسة "الحسم العسكري" أكثر من أي وقت مضى منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في فبراير/شباط الماضي.
القصف الروسي شكّل رسالة مزدوجة، الأولى أن حالة البهجة التي سادت القيادة الأوكرانية بعد التقدم الأخير، الذي حققته باستهداف جسر القرم انتهت، وأنه لا قيمة استراتيجية لذلك في ظل المعادلات العسكرية بين الجانبين.
والثانية رسالة إلى الغرب وجناحه العسكري، حلف شمال الأطلسي، الناتو، مفادها أن الحرب الحقيقية هي بين روسيا والناتو، وأن أوكرانيا ليست سوى ساحة لهذه الحرب، يدفع ثمنها المواطنون الأوكرانيون بالدرجة الأولى، وعليه أعدّت روسيا لفصل جديد من هذه الأزمة، عبر القيام بعمليات عسكرية واسعة على وقع حملة التعبئة الجزئية الجارية في البلاد، ووصول معدات عسكرية وقتالية جديدة إلى الجبهات المشتعلة، في تعبير عن أن هذه المرحلة الجديدة ستكون أكثر خطورة وتصعيدا.
تدرك موسكو جيدا أن إطالة أمد الأزمة الأوكرانية هو هدف أمريكي، بالدرجة الأولى، وأن المخطط الأمريكي هو استنزاف روسيا عسكريا واقتصاديا وماليا وبشريا، لإخراجها من حالة المنافسة الجيوسياسية على الساحة الدولية، وأن استهداف خطوط الغاز الروسي "نورد ستريم 1-2" ليس سوى استكمال للدعم الغربي المفتوح لأوكرانيا من أجل تحقيق هذا الهدف، وهو ما لم لن تقبل به موسكو، وعليه لا يمكن النظر إلى القصف الروسي العنيف مؤخرا على أنه مجرد عمل انتقامي، ردا على استهداف جسر القرم، بقدر ما هو تحذير شديد اللهجة للغرب وحلف الناتو، بضرورة الكف عن استراتيجية التصعيد من الخلف.
وصول الأزمة الأوكرانية إلى هذه النقطة التصعيدية بين المعسكرين يجعل من الصعوبة التنبؤ بمساراتها، خاصة في ظل تلويح روسيا باستخدام أسلحة نووية واستراتيجية إذا تعرضت لتهديد مصيري، وهو ما يعني أنه مهما دعّم الغرب أوكرانيا عسكريا فإن قدرة الرد الروسي ستجعل من هذا الدعم دون أثر حقيقي في ميزان المعركة الجارية، وهو ما يضع الأزمة الأوكرانية في هذه المرحلة الفاصلة أمام مواصلة سيناريو التصعيد، الذي لا يتوقف الغرب عنه حتى الآن، أو التوجه إلى البحث عن تسوية سياسية تشكل بداية لحسابات الربح والخسارة، في ظل التداعيات الكارثية للأزمة الأوكرانية على قطاعي الغذاء والطاقة في العديد من دول العالم، لا سيما أوروبا، التي تحضر نفسها لشتاء قاسٍ بسبب ندرة موارد الطاقة، وصعوبة تأمينها في الظروف الراهنة.
المعادلة الجديدة والصعبة في الأزمة الأوكرانية قد تكون حافزًا لإخراج السؤال الصعب، الذي يدور في العواصم الغربية إلى العلن، وهو: "ألم يحن الوقت للبحث عن تسوية سلمية للأزمة الأوكرانية تحد من خسائر هذه العواصم بدلا من التفكير في هزيمة بوتين؟".
سؤال قد يكون من الصعب الإجابة عنه في الوقت الراهن بسبب الضغط، الذي تمارسه واشنطن على أوروبا والعالم، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أهمية القيام بمبادرات خلاقة لوضع الجميع أمام تسوية ممكنة، وما الزيارة التي قام بها رئيس دولة الإمارات، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، إلى روسيا في هذا التوقيت إلا تعبير عن الإحساس بالمسؤولية والسعي إلى تحقيق تهدئة تمهد لتسوية توقف نزيف الدماء في يوميات هذه الأزمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة