بدأ مصطلح الفلسفة التبسيطية أو الـminimalism ينتشر مؤخرا، مُعبّرًا عن أسلوب حياة يميل للاكتفاء بعدد أقل من الأشياء والتقليل إلى الحد الأدنى، بحيث لا يحتفظ الشخص بما يزيد على حاجته حاليا.
تورد "فرانسين جاي"، من رواد هذه الفلسفة، في كتابها "بهجة الحياة البسيطة" أمثلة على ذلك، منها مثلا ألا يفكر عشاق القهوة في شراء ماكينة صنع القهوة في المنزل، لأنها ستأخذ مساحة في منازلهم قد يستغنون عنها بالذهاب للمقهى الأقرب للمنزل، وقد يفيدهم ذلك أيضًا على المستوى الاجتماعي.
وتدعو إلى تطبيق قاعدة "إذا دخل شيء خرج شيء آخر".. بمعنى أنك إن اشتريت قميصا جديدا فلا تُدخلْه إلى بيتك "حرفيا"، إلا إذا أخرجت قميصًا آخر من دولابك وتخلصتَ منه.. وهي تعني ذلك بالفعل، فقد ذكرتْ أنها أحيانا تُضطر إلى ترك حقائب التسوق في سيارتها لأسابيع لأنها لم تُخرج بعد ما يكافئ هذه المشتريات من منزلها.
تنتشر صور منازل رواد منهج فلسفة التبسيط بشكلها المبهج وألوانها المحايدة وقطع الأثاث القليلة جدا، لدرجة أنك قد تشعر أن البيت فارغ لم يصل أثاثه بعد.. ويتفاخر كل منهم بقلة عدد القطع في مطبخه أو غرفة معيشته.
تطلب إحدى رواد الفلسفة التبسيطية، "ماري كوندو"، من عملائها أن يجمعوا كل مقتنياتهم من فئة معينة في كومة واحدة ويتخلصوا من كل شيء حرفيا لا يبعث عليهم السعادة، أو لا يعطيهم "شرارة البهجة" بمجرد النظر إليه. ولكل رائد من رواد هذه الفلسفة القدرة على أن يلقي عليك محاضرة كاملة أو يكتب مقالات في مقدار الراحة النفسية التي يشعر بها مَن يجمع مقتنياته ويلقيها على الرصيف أو يتخلص منها في سلة القمامة أو يتبرع بها.
الأمر طبعا له علاقة بالبيئة.. فتخزين الأشياء وتكديسها بلا فائدة أو وعي يضاعف عمليات الشراء، وبالتالي استنزاف الموارد البيئية التي تواجه بالأساس أخطارا محدقة.
ويدعو خبراء البيئة إلى التوقف عن الشراء غير الضروري وإعادة تدوير الأشياء حتى نتمكن من الحفاظ على الموارد وتقليل عمليات التخلص من القمامة التي تنتج عنها أخطارٌ مثل تهديد الأحياء البحرية أو الحرق الذي تنتج عنه غازات سامة وغير ذلك.
أين المعضلة؟.. يزيد عدد منتهجي الفلسفة في جميع أنحاء العالم ويتضاعف كل يوم تقريبا.. وحين يسير الناس وراء أي فلسفة بلا تفكر يبتلعون الطعم.. البساطة رائعة ومريحة لا أنكر.. والاكتفاء والرضا بما نستخدمه جميل.. لكن ما يزيد على حده ينقلب إلى ضده.
تفكّر معي أنك قررت اتباع تلك المنهجية فدخلت إلى درج مكتبك واكتشفت أن لديك 10 أقلام.. وأنت تستخدم قلما واحدا في عملك.. فقررت بكل حماس أن تتخلص من 8 أقلام.. ستذهب للمكتبة وتشتري قلما جديدا بعد شهر من الآن.. لو لم تتخلص من الـ8 أقلام من الأساس لما كنتَ دفعت نقودا إضافية في شراء قلم كان عندك بالفعل.. أليست تلك منفعة للفكر الرأسمالي من جهة أخرى؟ أنت هنا لا تقلل الشراء بل تزيده.
القاعدة الثابتة ألا نتخلص من شيء ما دام أنه مفيد ويمكن استخدامه قبل أن تنتهي صلاحيته ولديك مكان لتخزينه.. لا تتخلص منه وتذهب لتشتريه مرة أخرى حينما تحتاج إليه.. فهذا هو إهدار الموارد الحقيقي.. أنت تتخلص من النافع ثم تحتاج إليه فيما بعد فتشتريه وتهدر موارد استُخدمت لتصنيع منتج جديد لم تكن تحتاج إليه لولا أنك تخلصت من شبيهه.
هذه ليست دعوة للتكديس وترك المنازل ليس بها مكان لموضع قدم.. لكنها دعوة لأخذ النافع من الفلسفات الرائجة بتعقُّل بالغ وعدم تنفيذها حرفيا.. هل تبعث علينا مثلا فرشاة تنظيف المرحاض -عذرا- البهجة؟ لا بالطبع، لكنها ذات أهمية قصوى.. فماذا تقول ماري كوندو في هذا الأمر؟!
وفي ظل غلاء الأسعار عالميا، ألا يضع علينا شرب كوب قهوة يوميا، إن لم يكن أكثر، في مقهى الحيّ تكلفة إضافية؟ في حين إذا كانت لدينا ماكينة صنع قهوة في المنزل ستوفر علينا، ولكننا تخلّصنا منها! ألا يمكننا الاحتفاظ بها والذهاب للمقهى فقط حين نريد الترفيه أو تنمية المهارات الاجتماعية؟ ما رأي فرانسين جاي في ذلك؟!
أرى أن الأمر به كثير من الدعوات الخفية لزيادة الشراء على نحو غير مباشر، مثلما يقول المثل "ودنك منين يا جحا".. لا نشتري جديدا لا نحتاج إليه.. ولا ننجر وراء الحملات الدعائية الباهرة.. ونتعلم التفريق بين ما نحتاج إليه وما نريد.. ونتخلص من كل ما لا يصلح للاستخدام أو نتبرع بكل ما لا يصلح، لكنه قد يناسب آخرين.. لكن لا نتبع فلسفة تدعونا للاكتفاء بأقل القليل وما نستخدمه في اللحظة الحالية فقط.. لأن الشهر القادم مختلف عن هذا الشهر، وقد نحتاج إلى أشياء أخرى كنا نمتلكها بالفعل تبعا لطبيعة المرحلة فنتكبد تكاليف مالية وبيئية نحن في غنى عنها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة