يتباين المشهد الدولي بين إطلاق كوريا الشمالية صواريخها على جاراتها، وبين انعدام فرص إنهاء الأزمة الأوكرانية، وتوتر الصين-تايوان، وترقب واشنطن، ما يقود لانفجار الموقف إقليميا وعالميا.
اللافت أولا أن الولايات المتحدة طرفٌ فاعلٌ في الأزمات الثلاث، سواء في أزمة أوكرانيا أو كوريا الشمالية أو تايوان، بصرف النظر عن تقييم طبيعة دورها في هذه الأزمات.. نظرا لمسؤولية الإدارة الأمريكية عن إدارة الاستقرار السياسي والأمني عالميا، باعتبارها رأس النظام الدولي، إضافة لامتلاكها قدرات عسكرية ضخمة منخرطة في صور متعددة من المواجهات، سواء بوضع قوات كما هو قائم في اليابان وكوريا الجنوبية، أو استمرار ضبطها سلوك الصين وكوريا الشمالية، بل وروسيا، عبر استمرار التدريبات والمناورات المكثفة وتبني استراتيجية الردع المسبق، وهو ما بدأته منذ أشهر بإعادة هيكلة قواتها وإعادة تموضعها في مناطق متعددة داخل أوروبا، في إشارة لتحركات منفردة، وبالتنسيق مع دول حلف الناتو، التي تتحرك في دوائر محددة.
وتتخوف الولايات المتحدة من سلوك فرنسي ألماني لافت مؤخرا، عبّرت عنه تصريحات الرئيس الفرنسي تجاه روسيا بـ"ضرورة عدم التركيز على تركيعها"، أو تحرك ألمانيا في اتجاهات دولية متعددة لتأمين مصالحها الاقتصادية، في ظل التخريب الراهن للبنية التحتية للطاقة، واستهداف خطوط نقل الغاز عبر بحر البلطيق، وبالتالي فإن الولايات المتحدة ستعمل على الحضور قرب الأزمات الثلاث، وعدم التصعيد وتبني استراتيجية الترقب، والانتقال من المواجهة الحذرة للمباشرة حال التصعيد، كما جرى مع حالة كوريا الشمالية مؤخرا، واحتمال تمدد الصراع ليشمل كوريا الجنوبية، حيث لن يكون الحل وفقا لقراءات صينية وكورية جنوبية مقتصرًا على القيام بتدريبات رادعة في ظل التصعيد الكبير والمباشر للرئيس الكوري الشمالي، ومحاولته تحريك المشهد العسكري الراهن في إطار استراتيجية مدروسة -عكس ما يصور الإعلام الغربي- حيث يبدأ التصعيد منضبطًا، ويتم في توقيت له دلالاته المهمة، والتي يمكن أن تنقل المشهد في آسيا لمساحات أخرى، حيث ترى الإدارة الأمريكية أن الحل ليس في الردع، وإنما في تسكين الأزمة، وإبقائها في دائرة محددة، مع توقع سيناريوهات قد لا تكون صفرية.
اللافت ثانيا أن الإدارة الأمريكية تستهدف التعامل الحذر مع أي تصعيد قد يكون مكلفًا، ليس لطبيعة رد الفعل الداخلي عما يجري، رغم أهمية نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس وآثارها على طبيعة المصالح الأمريكية في إقليم جنوب شرق آسيا، بل لأن القوة الأمريكية باتت غير قادرة على الانتقال من استراتيجية الوجود والتعامل المباشر إلى إبقاء هذه القوة في إطارها، خوفًا من خطورة استخدامها، أو التصعيد المباشر سواء تجاه الصين في أزمة تايوان، أو كوريا الشمالية، لإدراكها أن دول النادي النووي لن تقبل بأنصاف خِيارات، وأن دولة مثل كوريا الشمالية ليس لديها أي التزامات تجاه المجتمع الدولي، ما يفسر أن فرض العقوبات واستمرار حظر التعامل معها قد يدفعها -كوريا الشمالية- لانتهاج استراتيجية استباقية، وهو ما برز في التجارب النووية من قبل، ومؤخرًا في إطلاق الصواريخ في مناطق الفضاء الكبير في آسيا وفوق سماوات دول المنطقة، وصولا إلى اليابان، في إطار رسالة تتجاوز الدلالات الرمزية إلى السياسية، باعتبار ذلك استراتيجية خطيرة ستهدد استقرار العالم، وليس جنوب شرق آسيا فقط، وهو ما تدرك تبعاته دول كاليابان والصين والهند وروسيا، وبالتأكيد دول الناتو.
اللافت ثالثا أن السلوك الأمريكي سيكون مرهونا باستراتيجية مرنة في تعامله مع الأزمات، مع تأكيد أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لم تُقدِم حتى الآن على استراتيجية كاملة يمكن فهم أبعادها وأهدافها، فما قُدم في مارس 2021 كان استراتيجية مؤقتة وخطوطًا عامة، وليس إطارًا محكمًا ومباشرًا، ومن ثم فإن الولايات المتحدة ستستمر في مواجهة الصين باعتبار أن بإمكانها "إيقاع ضرر كبير بالمصالح الأمريكية الاقتصادية"، رغم التسليم الأمريكي بصعوبة تفكيك الارتباط بين اقتصاد الصين والولايات المتحدة، على الأقل حاليا.
الرسالة أن الولايات المتحدة لن يكون بمقدورها الدخول في مواجهة مع روسيا والصين في آنٍ، وفي نطاقات الأزمات الراهنة كتايوان أو أوكرانيا، وستستمر في العمل تجاه دعم كييف عسكريا، مع تخصيص الكونجرس 12 مليار دولار لدعم الداخل الأوكراني، كما ستعمل على دعم قدرات كوريا الجنوبية عسكريا، مع تحسُّبها للقدرات الكبيرة لكوريا الشمالية، وحسابات القوة الشاملة التي تتحرك فيها، وخبراتها النووية التي اكتسبتها طوال السنوات الأخيرة، وهو ما تضعه الاستراتيجية الأمريكية منذ إدارة الرئيس السابق ترامب محل اهتمام عسكري.
ومن ثم فإن الولايات المتحدة ستتحرك بمقاربات مرحلية ومتنوعة قد يبدو فيها ارتباكٌ في قراءة المشهد، أو إعادة ترتيب التقييمات السياسية والاستراتيجية، وهو ما برز مؤخرا في التعامل مع تطورات أزمة أوكرانيا ودخولها فصلا جديدا من المواجهة المفتوحة، بعد ضم المناطق الأربع الأوكرانية لروسيا، في الوقت الذي ستنتقل فيه موسكو إلى استراتيجية فرض الأمر الواقع والضغط على دول الناتو بصورة مباشرة عبر سياسات متعددة.
ولعل التخريب الذي وقع للبنية التحتية في مجال الطاقة وخطوط الغاز والإمدادات رسالة أولى لأوروبا للضغط على أوكرانيا لوقف العمليات العسكرية والانتقال إلى مرحلة التفاهمات السياسية المباشرة، ما يعني وقف الحرب بعد أن يكون الجانب الروسي قد حقق كل ترتيباته الاستراتيجية في مواجهة الغرب والولايات المتحدة، والتي لن يكون أمامها سوى خيارات محدودة في التعامل، خاصة أن سيناريو ضم شبه جزيرة القرم ما زال مطروحا فيما يجري من تطورات متعلقة بإدارة الأزمة الروسية-الأوكرانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة