يبدو أن حزب العمال البريطاني يمضي في الطريق ليصير حزبا ثانويا.
فنظام الحزبين الرئيسيين نفسه ينهار، لتتحول الأحزاب الكبرى إلى محلية في الأقاليم الأربعة، التي تُشكّل المملكة المتحدة، والتي بدورها باتت أقل اتحاداً مما كانت عليه.
ليس من الواضح ما إذا كانت صفارات الإنذار قد انطلقت في قصر باكنغهام ودوائره المحيطة، إلا أن الحقيقة الماثلة للعيان هي أن هناك حزباً مختلفاً الآن يحكم كل إقليم من هذه الأقاليم الأربعة.
فالحزب الوطني الاسكتلندي يحكم إقليم اسكتلندا دون منازع تقريباً، وتحظى دعواته إلى الاستقلال بدعم متزايد بين السكان.
أما إقليم أيرلندا الشمالية، حتى وإن بقي محكوماً من جانب "اتحاديين" يتقدمهم الحزب الاتحادي الديمقراطي، فإن الوضع الخاص للإقليم والتقدم الساحق لحزب "الشين فين"، الموالي للوحدة الأيرلندية، في انتخابات عام 2019، يرسم معالم الشرخ على خارطة المملكة المتحدة.
حزب المحافظين، بأغلبيته الساحقة في برلمان "ويستمنستر"، ليس سوى حزب إنجليزي إلى حد بعيد، فهو حزب ثانوي في كل الأقاليم الأخرى، باستثناء إنجلترا.
الجائزة الوحيدة، التي امتلكها حزب العمال هي أنه كسب الأغلبية في برلمان "ويلز"، ليصبح حزباً محلياً هناك أكثر منه حزب وطني "بالمعنى الواسع".
وفي الواقع، لم يعد هناك في بريطانيا مَن يمكنه القول إنه حزب قادر على أن يكسب نفوذاً في عموم بريطانيا، فتلك الأيام زالت إلى غير رجعة، وذلك بالنظر إلى طبيعة الانقسامات، التي نشأت من تيارات اليمين الإنجليزية، والتي سيطرت في النهاية على حزب المحافظين.
هذه التيارات، التي قدمت نفسها كتيارات انفصالية "عن الاتحاد الأوروبي"، كان من الطبيعي لها أن تُغذّي، من حيث تدري ولا تدري، تياراتٍ انفصالية في اسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية.
مكانة حزب العمال تنحدر في هذا الواقع لتنتهي به إلى ما يشبه الموت السريري.. وعلى هذا توجد مؤشرات وأسباب.
المؤشرات ثلاثة، أولها، الهزيمة التاريخية التي مُني بها الحزب في انتخابات 2019، وكانت الأكثر فداحة منذ عام 1937.
الأمر "التاريخي" في هذه الهزيمة لا يعود إلى أن الحزب خسر 40 مقعداً في البرلمان من مجموع 242 -كان يملك 264 مقعداً في انتخابات 2015- بل لأنه خسر مقاعد فيما يسمى "الجدار الأحمر"، الذي دأب على التصويت له، ما يعني أن الحزب فقد جزءاً مهماً من قاعدته التاريخية.
المؤشر الثاني، هو أن الحزب عاد ليخسر أكثر من 165 مقعداً في الانتخابات البلدية، التي جرت مطلع مايو الماضي، وخسر معها مقعداً "تاريخيا" أيضاً في الانتخابات الفرعية "التكميلية" في بلدة هارتلبول، وهي "معقل عمالي" منذ إنشائها عام 1964.
أما المؤشر الثالث، والأهم، فقد جاء من الانتخابات الفرعية، التي جرت مؤخراً في بلدة "شيشام وأمرشام"، شمال غرب لندن، والتي فاز بها الحزب الليبرالي الديمقراطي بما يزيد على 56% من الأصوات، بينما تراجعت مكانة حزب العمال ليحظى بـ1.6% من الأصوات.
والأسباب أيضاً ثلاثة، أولها هو أن قيادة جيرمي كوربن "اليسارية"، بمعايير القالب التقليدي للاشتراكية الديمقراطية، لم تكن يسارية فعلا عندما تعلق الأمر بمسألة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، فالغالبية العظمى من عضوية الحزب كانت تريد البقاء في الاتحاد، بينما تبنَّى "كوربن" موقف اليمين المحافظ، فدخل الحزب انتخابات 2019 المفصلية بموقف مضطرب، وهو ما كان يكفي لزعزعة الثقة بقيادته ويبرر استقالتها.
السبب الثاني، هو أن الحزب بقيادة كير ستارمر انشغل بخوض حرب داخل الحزب لمطاردة الساحرات بشأن قضية "معاداة السامية".
وبدلا من أن يعود الحزب ليقرأ الموقف من "بريكست" بما يتلاءم مع طبيعته وتطلعات القاعدة العريضة من أعضائه، الذين يمثلون جيلا جديداً، التحق في الغالب بفضل "يسارية" كوربن، فقد انتهى إلى قبول الاستسلام للواقع.
أما السبب الثالث، فهو أن "ستارمر" نفسه يفتقد الكاريزما، التي تؤهله لقيادة بلد.. لقد حاول أن يكون صارماً وواضحاً تماماً حيال مسألة "معاداة السامية"، إلا أنه ظل مهادناً في كل شيء آخر.
هذا الحزب العريق انتهى إلى أنه لا يعرف ماذا يريد، ويغرق في نزاع داخلي أصم، ولم يعد يشبه نفسه.
وقد جرت القاعدة على أن زعيم الحزب يستقيل إذا ما مُني بهزيمتين برلمانيتين متتاليتين، وهو ما فعله "كوربن".
وبينما تشير الدلائل الانتخابية إلى أن حزب العمال يُحتضر ويخسر مكانته كحزب رئيسي، فإن هذه القاعدة قد تعني أن "ستارمر" سيظل على رأس الحزب حتى تتحقق الهزيمة عام 2029، وسيكون الحزب ساعتئذ قد مات واستوجبت فيه مراسم العزاء، مثلما قد تستوجب مراسم وداع "المملكة المتحدة" نفسها، إذا ما بقيت المعادلات الراهنة كما هي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة