لا يحدث اهتزاز سياسي في أي بلد عربي، إلا ويكون الإخوان طرفا فيه، وسريعا يزعمون أن ما يجري تدبير للجيش الفلاني أو المؤسسة الأمنية كذا.
يحدث هذا دائما حتى لو كان تعبيرا سياسيا لم يترك إزاءه الإخوان مكانا للتداول الطبيعي الاعتيادي على السلطة، وفقا لما تسمح به القوانين المعتبرة، أو قواعد اللعبة الديمقراطية، وحتى لو كان الأمر يتعلق بزخم شعبي واضح للعيان.
ذلك الأمر كان أشد وضوحا في الحالة المصرية، حينما ذهب الإخوان إلى نهاية الشوط في إنكار حق ملايين المتظاهرين، الذين لم يطالبوا بأكثر من انتخابات سابقة لأوانها وتعديل دستوري، بل وطفق التنظيم يشنّع على المؤسسة العسكرية المصرية لدى تدخلها للوساطة بادئ الأمر بين لفيف القوى السياسية المعارضة وملايين المحتجين من جهة، وبين الإخوان الذين تمسكوا بالبقاء في السلطة عنوة، من جهة ثانية، ما انتهى بحالة شلل سياسي اضطرت الجيش المصري إلى إعلان خارطة طريق أنقذت مصر من الدخول في أتون المجهول.
أما إخوان تونس فقد ذهبوا إلى رسم صورة مغايرة للحقيقة بقولهم إنهم "توافقيون"، وهو ما كانت سنوات قليلة ماضية كفيلة لكشفه، لا سيما بعد الانسداد الأخير الذي ارتطمت به تونس، بسبب العنجهية والتصلب في المواقف الإخوانية، ما انتهى بالقرارات التاريخية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد، وجعل "إخوان الغنوشي" يسارعون مجددا إلى استعمال توصيف "انقلاب"، لوصم دينامية سياسية مؤسسية وقانونية طبيعية لاستعادة كل القيء الإخواني المصري، الذي أسقطته الوقائع الاجتماعية والقانونية والمؤسسية.
يبدو إذن أن الإخوان، ومن خلفِهم آلة جيوسياسية تحركهم، فضلا عن أذرعهم الإعلامية، يعتبرون أن المعيار الوحيد للعمل الديمقراطي السلمي والسليم هو وجود الإخوان على رأس السلطة، ومتى أبعدتهم الديناميات الاحتجاجية بسبب سوء إدارتهم لدواليب الدولة، أو لإشباعهم العملية السياسية بالممارسات الكيدية وجميع أشكال التسميم، فإنهم يرفعون ورقة "الانقلاب" إياها، حتى لو تعلق الأمر بقرار لرئيس مدني منتخب، كانوا هم أنفسهم أشد المدافعين عنه، كما هي الحال بالنسبة للرئيس قيس سعيد، أو لقائد عسكري كالوا له المديح الوفير أيام حكمهم، كما هو الشأن بالنسبة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فالمشكل ليس في دور الجيش والمؤسسات الأمنية الوطنية في السلطة بالنسبة للإخوان، بل في أي خط ستسير فيه؟ خط الشارع ونبضه، أم خط الإخوان وهواجسهم السلطوية المَرضية؟
هنا ينبغي الإيضاح أن الموقف المتشنج والعدائي الذي يبديه الإخوان حيال الجيوش العربية والمؤسسات الأمنية للأوطان، إنما هو تعبير عن الذهنية الخلاصية القابعة في مخيال كل إخواني، والتي تتلخص في ادعاء الطهرانية وسط مجتمع يُعتقد إخوانيا أنه "جاهلي"، وبالتالي فمؤسسة الأمن والجيش، بما لها من اختصاص استعمال القوة، متى كانت أداة طيعة في يد الإخوان، حال وجودهم في السلطة، فإنها حتى لو ذبحت كل المعارضين، فليس في ذلك أي مشكل، ذلك أن الذهنية الإخوانية لا ترى في المعارضة دورا أو وظيفة سياسية ارتبطت بممارسة السلطة منذ الأزل، وأخذت في تراثنا السياسي أشكال النصح والمشورة وسائر ما يقع تحت اسم الآداب السلطانية، وأخذت داخل التجربة الديمقراطية الإنسانية الحديثة أشكالا أكثر تنظيما وبروزا، لكنهم يرون فيها جريمة وجملة أفعال لا حل معها سوى التشنيع والاتهام بالتآمر، بل وينبغي استئصالها على نحو أمني إن أمكن.
لكن هذا المسعى الإخواني المتخلف دائما ما يصاب في العالم العربي بخيبة ثقيلة، حيث المؤسسة العسكرية والأمنية ترفض تماما المنطق الإخواني، سواء كانوا موجودين في السلطة أو على رأسها أو خارجها، وتختار الاصطفاف إلى جانب النبض الاجتماعي، سواء من حيث تماهي عناصرها وقياداتها مع المفهوم الاجتماعي الثقافي للتدين، أو من حيث السياق التاريخي والسياسي، الذي ولدت وتطورت في خضمه مؤسسات الجيش والأمن في العالم العربي، حيث خرجت من معطف تحولات تاريخية عميقة ومتلاحقة لا قِبل للذهنية الإخوانية بها، بل طالما اصطدمت بها وبسياقات نشوئها تلك.
لقد خرجت المؤسسات الأمنية والعسكرية العربية المعاصرة في بادئ الأمر من رحم الصراع مع أيديولوجيا التتريك في بدايات القرن العشرين، حيث اشتعل المشرق العربي في مواجهتها عبر اتحاد الدعوات الفكرية والسياسية القومية العربية، مع مشاريع نشوء الدول العربية الحديثة، ثم لعبت الجيوش الوليدة دور النواة والعصب بالنسبة لحركات التحرر من الاستعمار في المشرق والمغرب العربي، ما اضطر تلك المؤسسة إلى أن تمسك بزمام السلطة في كثير من الأقطار، وتتولى هي مهام بناء الدولة الحديثة، حيث المواءمة الهادئة بين الثقافة الإسلامية وقيم العصر، على النحو الذي لم يعجب الإخوان، الذين ما تخلوا يوما عن حلم "خلافتهم".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة