في التحليل السياسي، سواء الأكاديمي أو البحثي أو الصحفي، تأتي بعض المفاهيم والمصطلحات المهمة التي يمكن اللجوء إليها لفهم ظواهر أو أحداث أو تطورات على الساحات السياسية الداخلية أو الخارجية.
ومن هذه المفاهيم والمصطلحات ما يتصل أحياناً برؤى فكرية وسياسية لبعض القوى والتيارات السياسية، التي تعتمد في رؤيتها لنفسها وللواقع المحيط بها على هذه المفاهيم والمصطلحات.
ويتقاطع التحليل السياسي بشتى أنواعه مع رؤى العديد من تلك القوى والتيارات، فيما يخص ما يطلق عليه "الشرط الموضوعي" و"الشرط الذاتي"، للطريقة التي يتم بها تغيير الأوضاع والأحوال في المجتمعات والدول.
بصورة أوضح، فإن هذين النوعين من الشروط ظهرا وازدهرا تاريخياً في الأدبيات السياسية للجماعات والقوى اليسارية على مستوى العالم. ويرتبط الأمر بكون هذه الجماعات، خصوصاً الأكثر راديكالية منها، تهدف دوماً لإحداث تغييرات رئيسية وأحياناً جذرية في البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية في مجتمعاتها وبلدانها، وترى أن تحقيق هذا يرتبط بكل من "الشرط الموضوعي" و"الشرط الذاتي".
والتعريف المبسط للشرط الموضوعي في هذه الأدبيات، هو الأوضاع والأحوال القائمة والجارية في المجتمع أو الدولة، التي تتطور بفعل آلياتها الخاصة مع وجود قوى واتجاهات سياسية واجتماعية ذات مصلحة وراءها تدفع بها إلى مزيد من الاستقرار والاستمرار.
وفي معظم رؤى الجماعات والتيارات اليسارية، لا يتم ما تهدف إليه وتعمل عليه من تغييرات رئيسية في مجتمعاتها وبلدانها، سوى بوصول هذه الأوضاع والأحوال، أي "الشرط الموضوعي"، إلى مستوى من التطور يجعل هذه التغييرات لا مفر منها. وهنا يظهر مفهوم "الشرط الذاتي" في تلك الأدبيات، حيث يعني توافر القدرات والاستعدادات الذاتية لدى هذه الجماعات والتيارات، بما يمكنها من التعامل مع "الشرط الموضوعي" بفاعلية والاستفادة مما وصل إليه من أجل تحقيق التغييرات الرئيسية المنشودة منها.
وتاريخياً من المعروف أن قدرة هذه الجماعات والتيارات اليسارية على إحداث ما تسعى إليه من تغييرات مهمة في بلدانها ومجتمعاته، قد ارتبط دوماً بتوافر قدر معقول من نضج كل من "الشرط الموضوعي" و"الشرط الذاتي" معاً.
ومن المعروف تاريخياً أيضاً أن افتقاد الحد المعقول من "الشرط الذاتي" لدى كثير من هذه الجماعات والتيارات، رغم توافر أحوال "الشرط الموضوعي"، قد أدى في الغالبية الساحقة من الحالات إلى فشل مشروعها في التغيير، بل ووصول الأمر في معظم الأحيان إلى ضعف وتفكك وانهيار هذه الجماعات والتيارات.
ومن الواضح تماماً بالاستناد إلى هذين المفهومين، وذلك الفهم لهما، وإلى تاريخ الجماعات والتيارات المتبنية لهما، يمكن النظر لحالة جماعة الإخوان اليوم. فبعد عشر سنوات من إسقاط الشعب المصري حكمها القصير البائس في مصر بثورته العظيمة في 30 يونيو/حزيران 2013، يبدو جلياً أن الجماعة في السنوات الأخيرة قد تهالكت وضعفت وتشققت إلى الحد الذي انتهى فيه اعتمادها على "الشرط الموضوعي". ففي خلال هذا العقد، لم يتوقف فقط نمو الجماعة المعتاد طول سنوات تاريخها الطويل، بل وتشقق تنظيمها للمرة الأولى في هذا التاريخ إلى ما يشبه الجماعات المنفصلة الصغيرة المتصارعة، وفقدت القسم الأكبر من بريقها الشعبي القديم متحولة لدى غالبية المصريين من "حلم" إلى "كابوس".
وظهر ذلك التغيير الجذري واضحاً في إعلام الجماعة والملتحقة بها بمختلف أنواعه الموجهة من خارج مصر خلال السنوات الخمس الأخيرة بصفة خاصة. فبعد أن ظلت الجماعة وإعلامها طول السنوات الخمس الأولى بعد سقوط حكمها تراهن على "الشرط الذاتي"، أي قدرتها القديمة على التحرك والتعبئة بأعداد كبيرة من أعضائها ومؤيديها لتحقيق هدفها في تغيير الأوضاع في مصر، راحت خلال السنوات الخمس التالية وحتى اليوم، ليس لديها من رهان على أي قدرات ذاتية لديها لتحقيق هذا الوهم السرابي.
لم يعد لدى الجماعة وإعلامها سوى المراهنة والتلاعب والتزييف والتضخيم في كل ما يخص "الشرط الموضوعي"، أي الأوضاع والأحوال في مصر، خاصة الاقتصادية والاجتماعية، بهدف خلق حالة من الاحتقان والغضب من فئات الشعب المصري على نظام الحكم في بلاده، فيقوم بما تتوهمه الجماعة وتعجز تماماً عن القيام به. تقترب الجماعة بهذا الشكل بصورة سريعة من تجارب الكثير من الجماعات والتيارات اليسارية عبر العالم، بفشل مشروعها في التغيير، ووصولها إلى حالة الضعف والتفكك والانهيار، والتي تكاد أن تنبئ بنهاية الجماعة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة