«إذا تغيرت الروح العامة للإدارة المصرية، وأصبحت القاعدة مصلحة المحكومين...يأتي الإصلاح الذي تطلبه البلاد»...
«إذا تغيرت الروح العامة للإدارة المصرية، وأصبحت القاعدة مصلحة المحكومين...يأتي الإصلاح الذي تطلبه البلاد»...
هذه العبارة هي خلاصة مقاربة أستاذ الأجيال أحمدلطفي السيد للإدارة المصرية. والتي وردت في مقالته «موظفونا عام 1912. ما يعني أن العقل المصري قد انشغل «بالمسألة البيروقراطية» مبكرا ــ قبل أكثر من مائة سنة ـــ ، وفي ضرورة إصلاحها وتطويرها وتحديثها. وبالرغم من التغيرات المتعاقبة التي طرأت على أنظمة الحكم في مصر، ومنها: أولا: التغير من الملكية إلى النظام الجمهوري. وثانيا: التغير من رأسمالية الدولة في دولة يوليو إلى اقتصاد السوق المفتوح في دولة يوليو المضادة. وثالثا: التطور المذهل في أنظمة الإدارة ومناهجها. إلا أن البيروقراطية ظلت «عصية»؛ على:التطور، والقبول بالتجديد المؤسسي الشامل، ومواكبة العصر...وهو ما يؤكده لنا في لغة أدبية بليغة الأستاذ يحيي حقي كما يلي:«...منذ تصريح 28 فبراير سنة 1922...وأنا أقرأ في الصحف أخبار محاولات لإصلاح الأداة الحكومية...استقدمنا خبراء أجانب...واجتمعت لجان (وطنية) قدمت تقارير وضعت في الأدراج...ولا شيء» (راجع تراب الميري ـــ 1976)...وقد انشغلنا نحن بهذه المسألة من قبل وتناولناها في أكثر من مناسبة...إلا أن الواقع يقول اننا لم نزل نحتاج ـــ بالإضافة إلى تفعيل جدي لقانون الخدمة المدنية ــــ إلى فهم أكثر «للمسألة البيروقراطية» في جوهرها ومن ثم أسباب «تعصيها» المزمن والممتد...وعدم اعتبار قانون الخدمة المدنية نهاية المطاف.
يبدو لي أن السبب الأول هو النهج الذي نعتمده في الاقتراب من فهم «المسألة البيروقراطية». فهناك «منهجان» يمزج بينهما الخبراء في مصر. الأول: المنهج السلوكي؛ (ميرتون وبيتر بيلاو وغيرهما) ويركز على تطوير أداء العناصر الإدارية من أجل كفاءة/فاعلية أكثر للعملية الإدارية. الثاني: المنهج التنظيمي، (طومسون)، حيث يعطي الأولوية إلى إعادة هيكلة التنظيم الإداري من خلال فصل وحدات، وادارات، وأقسام، أو إعادة دمجهم في قطاعات ..وكما هو معروف، أن المنهج يحكم طريقة التعاطي مع الإشكالية التي نحن بصدد تناولها. فإذا كنا نختزل المسألة البيروقراطية ـــ فقط ـــ في الهيكل التنظيمي، وفي المهارات المطلوب توافرها. دون النظر إلى التركيبة الاجتماعية للجهاز البيروقراطي، وطبيعة المصالح التي تحدد حركة مكونات الجهاز الإداري في تجميد أو تحريك الأمور في ضوء التطورات التي لحقت بالمجتمع المصري وتحولاته الاقتصادية والسياسية. وهو ما دفعنا مرة أن نؤكد على أن فكرة ماكس فيبر في أن التنظيم البيروقراطي «محايد»، ومن ثم يحكمه «ولاء بيروقراطي مطلق للوظيفة والقانون». هو أمر ـــ أظنه ـــ بات محل نظر.
أما السبب الثاني في تبلور البيروقراطية العصية، ونتيجة للسبب الأول: المنهجان السلوكي والتنظيمي، هو النظر إلى الجهاز الإداري وكأنه «جهاز» مادي/ميكانيكي يمكن إصلاحه من خلال مجموعة من التدريبات تعمل على تطوير الأداء لعناصر ومكونات الجهاز الإداري مثل: كتابة التقارير، التقييم، الدقة، الموضوعية، تطوير الأداء من خلال ربط عناصر الجهاز الإداري بتحقيق الأهداف الإدارية تارة، التنموية تارة أخرى، التنموية المستدامة تارة ثالثة...،إلخ.(بحسب المنهج السلوكي في الإدارة) وهي كلها مهارات مطلوبة ومفيدة بل ضرورية. أو بإعادة تكوين الهيكل التنظيمي أو ما يعرف بالهيكلة والتطوير.(بحسب المنهج التنظيمي).إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل إذا ما دعمنا «الموظفين» بالمهارات المطلوبة. وعدلنا الهيكل التنظيمي، هل يتم الإصلاح الإداري في مصر. وهل تتغير تحيزات الموظفين الاجتماعية. وهل تتبدل أولويات اهتماهم من خدمة شبكات المصالح إلى خدمة المواطنين؟،...،إلخ.
أما السبب الثالث، اختزال الإصلاح الإداري منذ محمد علي وإلى الآن، في ما يعرف «بالترشيد البيروقراطي»، وأنه الطريق الوحيد لإنجاز هذه المهمة. بالرغم من أنه لا يتجاوز في جوهره «الإجراء» الكمي. وإذا ما كانت هناك ضرورة لذلك فإن ذلك يتم في إطار حزمة إجراءات وفق رؤية مركبة تربط بين الإدارة والتنمية. حيث الإدارة بعناصرها ومراحلها في خدمة العملية التنموية في مصر من جهة. ومن جهة أخرى، «هضم» مفهوم «الخدمة المدنية» الذي يعني خدمة موظفي الدولة لمصالح المواطنين على قاعدة المساواة (المحكومين بحسب أحمد لطفي السيد). وهو مصطلح حديث ويشترط حالة ديمقراطية تؤمن مراجعة ومحاسبة الموظف.حتى لا يتحول الأمر إلى استيراد للمصطلحات. فعلينا أن ندرك أن المفهوم هو نتاج السياق الذي يولد فيه وعن تطوره. كما أن مفهوم فيبر «أن النظام البيروقراطي للتنظيم الإداري قادر على الوصول إلى أعلى درجات الكفاءة في ممارسة الرقابة الآمرة على الكائنات البشرية»، قد تم تجاوزه إلى الإدارة في خدمة المواطنين.
الخلاصة، ما وأن أصبحنا على طريق تطبيق الخدمة المدنية. أظن أن هناك حاجة إلى نوع من الدراسات تتعامل مع الطبيعة الاجتماعية والطبقية للبيروقراطية(نشير إلى الدراسة الميدانية للسيد يسين وعلي ليلة للبيروقراطية المصرية ـــــ 1994). وأنماط تحالفاتها، وولاءاتها، ومحددات ولاءاتها وخدمتها للمواطنين على قاعدة المساواة أم على قاعدة تغليب المصلحة،...ما قد «يلين» «تعصي» البيروقراطية كقوة اجتماعية...نتابع...
* نقلاً عن " الأهرام "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة