تؤشر العديد من التطورات التي وقعت خلال الأيام القليلة الماضية إلى حدوث بعض التغيرات في حسابات ومواقف بعض القوى.
تؤشر العديد من التطورات التي وقعت خلال الأيام القليلة الماضية إلى حدوث بعض التغيرات في حسابات ومواقف بعض القوى التجارية الكبرى في العالم. فبعد أن كنا قاب قوسين أو أدنى منذ شهر واحد من نشوب حرب تجارية عالمية، تقلصت في مرحلة تالية إلى حرب بين أقوى قوتين اقتصاديتين في عالمنا الصين والولايات المتحدة.
يبدو أن هناك العديد من المناورات والمناوشات التي تحاول تحسين الموقف التفاوضي ومحاولة انتزاع أكبر مكاسب ممكنة من شركاء عملية التجارة لتجنب هذه الحرب. فقد أطلق الرئيس الأمريكي فجأة تصريحات بأنه كلف مستشاره الاقتصادي والممثل التجاري الأمريكي ببحث إمكانية الانضمام مجددا إلى اتفاق الشراكة الجديد عبر المحيط الهادي، إذا تحقق نجاح في تحسين هذا الاتفاق.
وكان الانسحاب من المفاوضات الرامية إلى تأسيس منطقة تجارة حرة بين ضفتي الهادي في قارتي أمريكا وآسيا هو القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي بنفسه في الأسبوع الأول من دخوله للبيت الأبيض في يناير من العام الماضي 2017. إذ تمحور جزء من الدعاية الانتخابية لترامب حول أن هذه الاتفاقية تحمل أسوأ العواقب بالنسبة للمصالح الأمريكية، خاصة إلحاقها ضررا مؤكدا بفرص العمل للمواطنين الأمريكيين.
وقد تزايدت حمى التركيز على هذه الاتفاقية بالذات لأن مرشحة الحزب الديمقراطي المنافسة في الانتخابات هيلاري كلينتون كانت من أنصار التوصل لهذه الاتفاقية وركزت على أهميتها في تعزيز المصالح الأمريكية. ولذلك سارع ترامب بعد دخوله البيت الأبيض إلى إعلان انسحاب بلاده من المفاوضات ليؤكد على مصداقية برنامجه الانتخابي، ويبين لناخبيه أنه رجل أفعال لا أقوال.
يبدو أن المناورات والمناوشات ستستمر بين القوى الاقتصادية والتجارية الكبرى في العالم، خاصة بين الصين والولايات المتحدة لفترة من الوقت، ولكن من الظاهر أيضا أن الإدارة الأمريكية تتحرك شيئا فشيئا نحو التخلي نسبيا عن لهجة التهديد والوعيد.
ما الذي جدّ إذاً ودفع واشنطن للتفكير في العودة للانضمام للاتفاقية؟ ربما يكون السبب الأهم هو أن الأحد عشر بلدا الأخرى أطراف عملية التفاوض حول الاتفاقية (اليابان وأستراليا وكندا ونيوزيلندا وسنغافورة والمكسيك وبيرو وتشيلي وفيتنام وماليزيا وبروناي) قد مضت قدما في المفاوضات بعد انسحاب الولايات المتحدة وتوصلت إلى اتفاقية أطلق عليها "اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادي". ويبدو أن الإدارة الأمريكية كانت تراهن على أن الانسحاب ربما يؤدي إلى الانهيار التام لهذه المفاوضات، وهو ما يعطيها الفرصة لانتزاع أكبر مكاسب ممكنة بعرض استبدال هذه الاتفاقية باتفاقيات ثنائية لتحرير التجارة بينها وبين أغلب هذه البلدان.
وفي الواقع فقد كان للولايات المتحدة اتفاقيات للتجارة الحرة مع ست من هذه البلدان، وأعربت عن رغبتها في الوصول لاتفاق مع اليابان أكبر اقتصاد في هذه المجموعة. وقد أعلن الرئيس ترامب بنفسه هذه الرغبة بشكل واضح قبيل زيارة رئيس الوزراء الياباني لواشنطن يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين. ولكن كان من الواضح أيضا أن اليابان تقاوم مثل هذه الرغبة، خاصة أن الولايات المتحدة كانت تسعى لكي تتضمن الاتفاقية المنشودة بنودا حول السياسة النقدية وأسعار الصرف. أي أن الرئيس الأمريكي ناور بالعودة لاتفاقية تم التوصل إليها بالفعل وإعادة فتح التفاوض حولها، وهو ما أكد بعض المسؤولين اليابانيين صعوبته، في الوقت الذي كان لا يزال يسعى أيضا إلى نهج الاتفاقات الثنائية المفضل بالنسبة له.
والواقع أن الولايات المتحدة كانت تؤكد دوما على هذا النهج، ففي الوقت الذي صدرت فيه تصريحات في وقت سابق من قبل بعض دول اتفاقية الشراكة عبر الهادي تذهب إلى أنهم سيبقون الباب مفتوحا أمام عودة الولايات المتحدة للمشاركة، كان الممثل التجاري الأمريكي روبرت لايتهايزر يؤكد أن "الرئيس ترامب اتخذ قراره بأن المفاوضات الثنائية أفضل للولايات المتحدة من المفاوضات متعددة الأطراف".
وفي الطرف المقابل جرى تنفيذ بعض المناورات أيضا. فقبيل سفر رئيس وزراء اليابان لواشنطن بيوم واحد عقدت جلسة حوار اقتصادي رفيع المستوى بين اليابان والصين وهو الأول من نوعه على هذا المستوى منذ نحو ثمانية أعوام، حيث اتفق البلدان على أن الحرب التجارية ستكون لها آثار خطيرة على الاقتصاد العالمي. كما أعلنت اليابان في هذا الاجتماع إمكانية مشاركتها في مشروعات مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهو ما ينم عن رغبة يابانية في تمتين العلاقات الاقتصادية مع الصين على الرغم من الخلافات السياسية الممتدة والناجمة عن الخلاف حول السيادة على بعض الجزر. إذ لا يمكن في هذا السياق تجاهل أن الصين أضحت الآن الشريك التجاري الأول لليابان وليس الولايات المتحدة.
ويبدو أن المناورات والمناوشات ستستمر بين القوى الاقتصادية والتجارية الكبرى في العالم، خاصة بين الصين والولايات المتحدة لفترة من الوقت. ولكن من الظاهر أيضا أن الإدارة الأمريكية تتحرك شيئا فشيئا -وإن كان في طريق غير مستقيم- نحو التخلي نسبيا عن لهجة التهديد والوعيد بتبني سياسات الحماية التجارية، التي يبدو أنها أدركت مثالبها ليس فقط في علاقاتها الخارجية ولكن على دائرة المؤيدين للإدارة.
ويأتي ذلك على خلفية الضرر الذي قد تلحقه هذه الحماية ببعض القطاعات والمصالح المحلية بوقوعها في مرمى الإجراءات الانتقامية التي قد تتخذها الدول التي تمارس ضدها الحماية. ألا يلفت النظر ترحيب المشرّعين الأمريكيين خاصة الذين يمثلون ولايات زراعية بتصريحات ترامب حول العودة لاتفاقية الشراكة عبر الهادي؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة