الواقع المؤسف للمواطن السوري اليوم هو أنّ الخطّ الأحمرَ قد تمّ تجاوزه، فالرغيف هو الخط الأحمر الذي أصبح في خبر كانَ.
على الرغم من أنّ السوريّين جربُّوا كلّ الويلات التي تمخضت عنها سنيُّ الحرب بكل مآلاتها الأمنية والعسكريّة والاقتصاديّة، من قتلٍ وتشريدٍ وسلبٍ ونهبٍ، إلا أنّهم اليومَ يعيشون أسوأ الأوضاع والأحوال الاقتصاديّة في ظلّ فقدان أدنى مقومات الحياةِ من بنى تحتية وتعليمية، ولكنّ الأدهى والأكثر مرارةً هو أنّ الوضع تفاقم في ظلّ العقوبات الأخيرة المعروفة بقانون "قيصر"؛ إذ بلغَ التضخمّ ذروته بتدهور سعر صرف الليرة السورية مقابل القطع الأجنبي، بالإضافة إلى شح المواد الأولية والمحروقات والنقص الحادّ في الأدويةِ، ولكنّ كل ذلكَ ربما يمكن الصبر عليه على أمل الانفراج القريب لأزمةٍ طالت حتى الآمال بالقتل والدفن، أمّا أنْ يصل الأمر حدّ رغيف الخبز الذي لطالما فخر السوريّ بأنه ينتجه بيديه ومن أرضه دون الحاجة لمدّ اليد وذل السؤال؛ فهذا ما لا يمكن الصبر عليه أو التنازل عنه.
الواقع المؤسف للمواطن السوري اليوم هو أنّ الخطّ الأحمرَ قد تمّ تجاوزه، فالرغيف هو الخط الأحمر الذي أصبح في خبر كانَ، ليجعلنا أمام حقيقة مؤسفةٍ مفادها أنّ السوريّ اليوم جائعٌ، نعم جائعٌ بكلّ ما للكلمةِ من معنى، ومما يزيد بؤسَه وشقاءَه أنّ الحلول المقترحة من أسيادِ الأرضِ من الفرقاء السياسيين والعسكريين التي يخرجونها من جُعبِهم التي لا تخلو من الرصاص ولا من الحلول والوصفات الجاهزةِ لمن لا يملكُ إلا حنجرته، وبضع قطراتٍ من دمٍ، وكليتين وهبهما الله له لتنقية تلك القطرات من لقمة مغموسة بالبارود، وشربة ماءٍ تجود بها عيون الثكالى، وأنين اليتامى، لم تر نور الأمان منذ عقدٍ من الزمن.
وما بينَ جعبة الصامدين وجعبة المتعبين ضاعَ رغيف الخبز وشربة الماء، فالكلى التي تعمل على تنقية الدماء لن تجد لنفسها عملاً في جسدِ صامدٍ ما لم يأكل ويشرب، ولم يدخل فاهه لقمة خبزٍ أو قطرة ماءٍ، كما لا حاجة للعيون التي لن ترى سوى الخوف والهلع وطريق النزوح والهجرة، فبهديِ تلك الشعارات الرنانة يبدو أنّ السوريّ فهم مغزاها ومآلاتها، بأنّ الطريق مسدودٌ ولا خيارَ آخر أمامه، سوى بيع ما لا يلزمه ولا حاجة له به، مما دفعنا اليوم إلى الصدمة اليوميّةِ أمام التقارير الكثيرة والمتعاقبة بوتيرة سوق نشطٍ في موسمٍ وافرٍ عن بيع الأعضاء في سوريا، ولا سيّما الكلى والقرنيات، حتى باتت سوريا سوقاً رائجةً للأعضاءِ البشريّة، فكل ما عليكَ أنْ تضعَ إعلاناً جدارياً يفيدُ بالحاجة إلى كليةٍ أو قرنيّةٍ حتى تتهافتُ عليكَ العروض من كلّ حدبٍ وصوبٍ وعلى هيئةِ تبرّعات لشرعنتها والتهرّب من المساءلة التي لا تسأل عن السبب الذي دفع هؤلاء لبيع أنفسهم من أجل رغيف خبزٍ .
مِمّا لا شكّ فيه بأنّ القانون السوريّ يجرّم تجارة الأعضاء ويصنفها بالجريمة الجنائية، والتي قد تأخذ شكل الجريمة المنظمة، لا سيّما وأنّها قد تعبر الحدود، ولكنّ الثغرة المتمثلة بالدوافع الإنسانيّة والتبرع من أجل إنقاذ حياةِ مريضٍ جعلت الباب مفتوحاً لهذه التجارة لتأخذ شكل الجريمة الصامتة، وليت الأمر يقف عند هذا الحدّ بل إنّه في أغلب الأحيانِ يتم النصبُ على البائع الذي ما إنْ يخرج من المستشفى حتى يتوارى السمسار بباقي المبلغ المتفق عليه، فيصمت البائس الجائع عن الأمر خوفاً من أنْ يفتح لنفسه باب السجن بعد أنْ فتح باب المستشفيات.
لا المنع ولا التجريم ولا التهديد القانوني ولا البحث الجنائي ولا التوعية الإعلامية ولا الشعارات الرنانة هي التي تضع حدّاً لهذا، وتحمي ما تبقى من جسد وروح السوريّ، إنما الحلُّ اليوم أكبر من مؤسسات معنيّةٍ بذاتها، الحلُّ يكمنُ في إيجادِ حلٍّ وطنيٍّ سوريّ على مستوى التراب السوري الكامل، بصرف النظر عن المسميات الفصائلية أو الحزبية، فهذه الجريمة وحال السوريين البؤساء كله في ذمة ورقاب أسياد الأرض المطالَبين اليوم بتواضع السوري للسوريّ من أجل السوريّ، وإغلاق كتاب البؤس والفناء البطيء لوطنٍ وشعبٍ قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح مجرد ذكرى، فبإلقاء السلاح والجلوس على الطاولة السورية يبرق الأمل في عيون وعروق السوريين، وبالخبزِ وحده يحيا السوريُّ يا أسياد الأرض لا بالشعارات .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة