بالفيديو.. زقاق المدق.. أيقونة محفوظ تتحول لمقهى يبحث عن زبائن
صورة للأديب المصري نجيب محفوظ، تصريح سهر، صورة للعم "علي يوسف" 3 دلائل رئيسية تؤكد للزائر والسائح أنه بداخل مقهى زقاق المدق
"طريقة المبلط بصفائح الحجارة، ينحدر مباشرة إلى الصنادقية، وقهوته المعروفة بقهوة كرشة تزدان جدرانه بتهاويل الأرابيسك، وروائح قوية من طيب الزمن القديم الذي صار مع مرور الزمن عطارة اليوم والغد" هكذا وصف الأديب العالمي نجيب محفوظ، في روايته الشهيرة زقاق المدق، حال الزقاق وتفاصيله، وبداخل الحي الصغير الواقع بمنطقة الحسين، التي أنشئت في عهد الدولة الفاطمية، توجد أقدم المقاهي المصرية التي حملت اسم الزقاق نفسه، المقهى الذي تردد عليه أدباء وفنانون كثيرون، وعازفو العود والربابة، طوال عقود طويلة من القرن الماضي.
صورة للأديب المصري نجيب محفوظ، تصريح سهر، صورة للعم "علي يوسف" الجد الأكبر لورثة المقهى، 3 دلائل رئيسية تؤكد للزائر والسائح أنه بداخل مقهى زقاق المدق، بعد أن فُقدت اللافتة الإرشادية من 10 سنوات التي تحمل اسمه، ليغيب عن الكثيرين معلومة أن بداخل الزقاق مقهى يحكي تاريخ مصر.
ووسط مرايا وعشرات الكراسي والمناضد القديمة، يقف عبد الجليل عبده، حفيد بطل رواية وفيلم زقاق المدق، وصاحب المقهى الحالي، في مقدمة الزقاق، منتظراً قدوم زبائن عرب أو أجانب إلى المقهى الصامد رغم تغيير الظروف وتبدل حاله من مكان يجمع بين الأدباء والمثقفين والفنانين، إلى مكان يدخلُ منه الزبائن، ولا يتردد عليه سوى الجيران والأصدقاء العاملون بالزقاق وبالقرب منه.
المقهى.. يحكي تاريخ الحسين والمدق
وفي هذا المكان جلس محمد رضا، وشكري سرحان، ويوسف شعبان، وحسن يوسف، أبطال فيلم زقاق المدق، المأخوذ عن رواية محفوظ، ليسرد عبد الجليل، تاريخ المقهى وتغيير الحال خلال السنوات الأخيرة، قائلاً: "هنا بدأ أجدادي عملهم، وورث أبي المهنة من بعدهم، هذا المكان ظهر فيه محمد رضا، وشكري سرحان، في فيلم زقاق المدق، ولكن الحال تغير وبعد رحيل رواد المقهى الأساسيين، انصرف المصريون والأجانب عن المكان خلال الـ10 سنوات الأخيرة".
وكان المقهى هو الأول والوحيد بالمنطقة، ليصبح من حق أصحابه وقتها في بداية القرن العشرين، فتح أبوابها طوال الـ24 ساعة أمام رواده ومرتاديه، وذلك في عام 1904، ليشير عبده أثناء حديثه مع بوابة " العين" الإخبارية إلى تصريح السهر الذي منحه السلطان حسين كامل، سلطان مصر وقتها، وما زال معلقاً في مدخل المقهى، ليوضح أن مكانه المقهى وتردد الكثيرون عليها، من بينهم عازفو الربابة والعود، والأدباء والمثقفون، منحها التصريح الدائم للسهر، ليعود تاريخ إنشاء المقهى لأكثر من 200 عام، لتورث عائلة علي يوسف المقهى، ويستقر الحال الآن على الحفيد الثالث عبد الجليل عبده.
زقاق المدق.. مقصد "محفوظ" الأول
وكان نجيب محفوظ من أوائل المترددين على المقهى يومياً، وكان يومه يبدأ من خلال زقاق المدق في تمام الساعة الثامنة صباحاً، يجلس في مكان محدد، ليكتب روايته ويسرد أفكاره حول اسم وقصة الرواية الجديدة، ويقضي ساعات انتظار فرق العمل أثناء تصويره للأفلام، على الكرسي نفسه والمنضدة بالمقهى. ومن سرد حكايات الجد، يخبرنا عبد الجليل عبده، أن مشروبات محفوظ المعتادة القهوة أثناء تناوله الفطار، والشاي في باقي ساعات اليوم وأثناء لقائه مع تلامذته جمال الغيطاني، ويوسف القعيد.
وبعد تحويل رواية زقاق المدق لفيلم عام 1963، وقع خلاف بين محفوظ وصاحب المقهى علي يوسف، حول حقيقة شخصية صاحب المقهى والصورة التي خرجت بها الشخصية بالفيلم، اعترض يوسف على هذا التناول، في حين نفي نجيب محفوظ وجود علاقة بين صاحب المقهى في الفيلم والواقع، موضحاً وقتها وفقاً لرواية الحفيد الثالث، أن التشابه فقط بين المقهى وتصوير عدة مشاهد بها، ليتوقف من بعدها عن طقسه اليومي بالذهاب لزقاق لفترة طويلة.
ورغم الخلاف بين محفوظ وصاحب المقهى وقتها، لكن حرص عبد الجليل عبده صاحب، أن يحصل على صورة للأديب العالمي موقعة منه ويعلقها بالمكان، ويتذكر عبده مكالمته مع الغيطاني مبتسماً ويقول وهو واقف بجوار الصورة "صورة محفوظ لم تكن موجودة من قبل، فقبل 8 سنوات تحدثت للكاتب جمال الغيطاني، وطلبت منه صورة لمحفوظ موقع عليها بخط يده، وذهبنا سوياً إلى محفوظ في منزله لتعلق الصورة بعد توقيعه عليها".
زقاق المدق.. ملتقى الفنانين وعازفي الربابة والعود
"وكاد المدق يغرق في صمته، لولا أن قهوة المدق ترسل أنوارها من مصابيح كهربائية، عشش الذباب بأسلاكها، وراح يؤمها السمار"، فالحجرة مربعة الشكل المزينة بالأرابيسك والمرايا والمكونة من أرائك وكراسٍ، لم تكن ملتقى للأدباء والمثقفين فقط، بل كانت مجلس للقاء بين كبار الفنانين والشخصيات العامة، من بينهم حسن يوسف، ومحمد رضا. وخلال هذه اللقاءات وجود عازفي الربابة والعود، وتنافسوا على تقديم المقطوعة الموسيقية الأفضل.
المدق.. بين المليم والجنيه
ويذكر محفوظ في روايته أجواء المقهى، قائلاً: "وعند مدخلها كان يكب عامل على تركيب مذياع نصف عمر بجدارها، وتفرق نفر قليل بين مقاعدها، يدخنون الجوز ويشربون الشاي".
وقديماً كان يعمل بالمقهى أكثر من 24 عاملاً، فكان المقهى الوحيد الموجود بمناطق الحسين والمعز والمدق، وكانت تقدم المشروبات والقهوة بطريقة فنجان "قهوة بيشة" ليشرح عبد الجليل قائلاً: "قهوة بيشة، يشرب الزبون القهوة على مرتين متتاليتين، ويقسم المشروب بين فنجانين" ذاكراً أن سعر المشروب الواحد لم يتجاوز الـ"مليم" (عملة مصرية قديمة) بينما في الوقت حالي يصل سعره إلى 2-3 جنيهات مصرية.
وبنبرة مليئة بالأسى، يصف صاحب المقهى حال العمل والإقبال بالمتدهور والمتغير للأسوأ، ورغم أن الحياة كانت أقل رفاهية وتحتاج مجهوداً أكبر لتقديم الخدمة لزبائن، إلا أن وضع المقهى ومكانتها كانت كفيلة لتحقيق الربح والعائد المناسب لأصحابها، بالإضافة لخلو المنطقة من المقاهي.
"القربة" كانت الوسيلة الوحيدة لجلب المياه للعاملين والزبائن بالمقهى، ومن سرد والده علم عبد الجليل، أن القهوة والشاي والمياه كانت تقدم عن طريق شخص يحمل "القربة" وعاء مليء بالمياه والسوائل مصنوع من جلود الحيوانات، يمر على الزبائن ليملأ الكوب والفنجان بالمشروبات والمياه، بينما في الوقت الحالي تتوافر المياه لإعداد المشروبات، والمبرد لتقديم المشروبات الباردة.
ويحتفظ المقهى بالأدوات والمعدات نفسها، مع اختلاف طريقة التقديم، فوسط أكواب زجاج وبراد الشاي ورمالة القهوة، يشير صاحب المقهى إلى بعض التغييرات الطفيفة في أثاث وتجهيز المكان، فأصبحت الكراسي والمناضد هي فقط الموجودة، عكس قديماً كانت وجود أرائك مصنوعة بزخرفة التصميمات العربية.
وتشاهد في أركان المكان، صندوقين مصنوعين من الأرابيسك العاج، وكل واحد منهما يحتوي على 24 درجاً داخلياً وخارجياً، يطلق عليها "بشتخته" وسيلة لمعرفة حساب كل زبون بالمقهى، ويوضع بها "مارك" لكل شخص، وفي النهاية يتم حسابها، نظرًا لأن القراءة والكتابة كانت مقتصرة على بعض الأشخاص، أما الآن فالورقة والقلم هما أداة عبد الجليل وابنه في حساب أثمان المشروبات للزبائن.
المدق.. تاريخ يبحث عن البقاء
"قطة تجلس في مقدمة المقهى.. كراسٍ خالية من الزبائن" هذا هو حال أقدم المقاهي بمصر، وبعد رحيل أغلب رواد المقهى، أصبح الوضع الحالي ليس على ما يرام، فتحول المكان الذي كان مكتظاً بالزبائن والفنانين والأدباء، إلى مكان خال من السياح، يتردد القليل من أهل الزقاق عليه.
وعمله بعيد تماماً عن المقهى، ولكن بعد وفاة والده التزم عبد الجليل صاحب الـ58 عاماً، بوصية جده ووالده واستكمال المشوار في إدارة مقهى زقاق المدق، فيقول: "تركت عملي من أجل الحفاظ على ذكريات بلدي وعائلتي، وتاريخ المنطقة".
فلم يكن ارتفاع الأسعار، هو الأزمة الوحيدة التي تهدد بقاء المقهى القديم، فمع زيادة الأسعار، وصعوبة الحصول على المؤن الغذائية للمقهى من خلال بطاقة التموين، يمسك عبد الجليل بأوراق التوكيل التي كانت تسهل عليه الحصول على احتياجات المكان، وبكل يأس يؤكد أن هذه الأوراق لم تعد معاونة لوضع المقهى الآن.
ومع تراجع مستويات السياحة، وغياب أسماء الرواد والمثقفين، واختفاء اللافتة التي تحمل اسم المقهى، يتراجع الإقبال يوماً بعد يوم، ليذكر محمد عبد الجليل يوسف، الحفيد الرابع، صاحب الـ24 عاماً، أن حال المكان تراجع بسبب ظهور مقهى جديد يحمل اسم زقاق المدق ومع غياب المعرفة والثقافة لدى الكثيرين، يفقد المقهى الأصلي اسمه ووجوده بين المصريين.
ليقرر عبد الجليل وابنه استكمال المشوار في العمل بالمقهى، رغم تغيير أحوال المهنة والظروف واهتمام الدولة المصرية بالمكان الذي ما زال يتحفظ بالتاريخ وأسرار عمرها أكثر من قرنين من الزمن.