تأميم الصناعات في فرنسا.. خبراء يحددون آلية تدخل الحكومة لحماية الوظائف

يرى خبراء اقتصاديون فرنسيون أن عودة النقاش حول تأميم الصناعات الثقيلة في فرنسا وعلى رأسها صناعة الصلب، تعكس لحظة مفصلية في التفكير الاقتصادي الفرنسي، حيث تتقاطع الضرورات البيئية مع التحديات السيادية وضغوط السوق العالمية.
ففي ظل الانكماش الصناعي والمنافسة الصينية وتخلي بعض الشركات عن مشاريع استراتيجية، يرى بعض الخبراء أن تدخل الدولة قد يكون حلاً عقلانيًا ومؤقتًا لحماية الوظائف والمصالح العامة. فيما يحذر آخرون من عواقب العودة إلى أدوات "اقتصاد الدولة" التي أثبتت محدوديتها في الماضي، داعين إلى حلول مبتكرة وشراكات ذكية بدلًا من التأميم الكامل.
في نهاية أبريل/نيسان، أعلنت مجموعة "أرسيلور ميتال" العملاقة في صناعة الصلب عن خطّة لإلغاء أكثر من 600 وظيفة في سبعة مواقع بفرنسا، في إطار مواجهة الانكماش الذي يعصف بصناعة الصلب في أوروبا. وسرعان ما ارتفعت الأصوات اليسارية والنقابية مطالبةً بتأميم الشركة، ولو مؤقتًا.
عودة النقاش حول التأميم
من جانبها، قالت نادين ليفراتو، الخبيرة الاقتصادية ومديرة الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، لـ"العين الإخبارية" إن قطاع الصلب في أوروبا يمر بـ"أزمة بنيوية" نتيجة أمرين: فائض الإنتاج الصيني الذي يغرق الأسواق بأسعار منخفضة، وتراجع الاستثمارات الصناعية في أوروبا نفسها.
وأضافت ليفراتو أن "أرسيلور ميتال" تسعى لنقل الوظائف الإدارية من أوروبا إلى الهند، وتخطط لتقليص الطاقة الإنتاجية في فرنسا، مما يعيد إلى الواجهة سيناريو "تدخل الدولة".
لكنها تنبّه إلى أن مصطلح "التأميم" واسع، بل وملتبس، موضحةً: "كلمة 'تأميم' هي في الحقيقة مصطلح شامل قد يعني ببساطة شراء الدولة لأسهم أو رفع حصتها في رأس مال الشركة. فالدولة الفرنسية تمتلك بالفعل حصصًا في شركات استراتيجية كـ"ألستوم، سافران، إير فرانس، وإي دي إف"، لذا الحديث عن التأميم لا يعني بالضرورة المصادرة أو السيطرة الكاملة، بل قد يكون مجرد شراكة استراتيجية".
- رسوم ترامب تُهدد مكانة «صُنع في فرنسا» بالأسواق الأمريكية
- عقارات فرنسا تترقب «عواصف الفائدة».. اختبار اقتصادي جديد
هل يصبح التأميم مدخلًا للتحول البيئي؟
وأكدت الخبيرة ليفراتو أن هناك فرصة استراتيجية للدولة، لكنها مشروطة بهدف واضح، مضيفة: "إذا كان الهدف من التأميم هو المضي قدمًا في مشاريع إزالة الكربون من صناعة الصلب، وهو أمر يحمل منفعة عامة صحية وبيئية، فقد يكون من المنطقي أن تصبح الدولة فاعلًا مباشرًا ومؤقتًا أو دائمًا في هذه المشاريع".
وتشير إلى أن "أرسيلور ميتال" كانت قد تخلت عن مشروع كبير لإزالة الكربون رغم موافقة الدولة والوكالة الفرنسية للانتقال البيئي (ADEME)، مما يُظهر الحاجة إلى تدخل مباشر يُؤمن استمرارية هذه المشاريع البيئية الحيوية.
نماذج أوروبية ملهمة
تستعرض ليفراتو تجارب أوروبية حديثة لتبرير أهمية التفكير في التأميم. ففي بريطانيا، تدخل البرلمان لإنقاذ شركة "بريتش ستيل"، وفرض على المالك الصيني استمرار الإنتاج مقابل التزامات مالية، مع وعود حكومية بشراء المواد الخام لتخفيف خسائر الشركة. أما في إيطاليا، فقد وضعت الحكومة مصنع "تارانتو" التابع لأرسيلور تحت وصاية مفوض حكومي يدير عمليات الإنتاج وفق استراتيجية وطنية.
وتابعت: "ليست كل تدخلات الدولة في الصناعة تأميمًا صريحًا. بعضها قائم على ضغط سياسي منظم، وبعضها عبر أدوات قانونية ومالية تتيح للدولة التأثير دون امتلاك مباشر".
تأميم بطابع يساري
رغم أن مطلب التأميم يصدر من أوساط اليسار والنقابات، فإن السياق يشير إلى تحوّل في المزاج السياسي العام، حتى داخل دوائر الحكم الليبرالية. فالتراجع الصناعي، وضغوط التحول البيئي، والرغبة في حماية السيادة الصناعية تدفع الدولة الفرنسية نحو استعادة أدوات التدخل المباشر في الاقتصاد.
وترى ليفراتو أن القرار في النهاية سياسي، مشيرةً إلى أن: "ما تحتاجه فرنسا هو نقاش شفاف حول معنى التدخل العمومي، وتحديد الأولويات: هل نؤمم لحماية الوظائف؟ لحماية البيئة؟ أم لحماية مصالح الدولة الاستراتيجية؟"
في المقابل، يعارض الخبير الاقتصادي مارك دانييل، مدير الدراسات في معهد "مونتين"، فكرة التأميم، معتبرًا أنها "رد فعل سياسي أكثر منه حل اقتصادي فعّال". وفي حديثه لـ"العين الإخبارية"، أوضح دانييل أن "الدولة ليست مجهزة لإدارة صناعات تنافسية ومعقدة كصناعة الصلب، خاصة في سياق عالمي سريع التغير".
وأضاف: "حين تتدخل الدولة كمستثمر، فإنها نادرًا ما تتحرك بمنطق الربحية والفعالية، بل بمنطق التوازنات الاجتماعية والضغوط السياسية، وهو ما يضر غالبًا بجوهر الإنتاجية".
ويحذر دانييل من تكرار تجارب فاشلة من تأميمات سابقة في فرنسا خلال القرن العشرين، قائلاً: "شهدنا تأميمات في قطاعات كبرى انتهت بتضخم إداري، وتراجع القدرة التنافسية، وأعباء مالية ثقيلة على دافعي الضرائب".
ويرى أن البديل الأنسب هو "تهيئة بيئة تنافسية عادلة، عبر دعم الاستثمارات في التكنولوجيا النظيفة، وفرض رسوم عادلة على واردات الصلب منخفض التكلفة، بدلًا من وضع الدولة في موقع المدير الصناعي".
هل من دور ثالث؟
ويرجّح مارك دانييل أن الحل يكمن في "دور ثالث" للدولة، لا هو بالتأميم الكامل، ولا بالانسحاب التام، بل في تحفيز الابتكار، وخلق حوافز للشركات الخاصة للاستثمار في التحول البيئي، مع توفير ضمانات اجتماعية للعاملين.
وتابع: "الدولة يمكن أن تكون شريكًا ذكيًا لا وصيًا دائمًا. ما تحتاجه فرنسا هو توازن جديد بين الرأسمالية الإنتاجية والحماية الاجتماعية، لا العودة إلى أدوات تعود لزمن الاقتصاد الموجه".
دولة مساهمة أم دولة منقذة؟
في ظل غموض مستقبل صناعة الصلب، والتردد في السوق الأوروبية بشأن مشاريع إزالة الكربون، تبدو الدولة الفرنسية أمام خيار حاسم: إما الاكتفاء بدور المنسق والممول، أو الدخول كلاعب رئيسي في إنقاذ ما تبقى من الصناعة الوطنية.
وبين ما تطالب به النقابات، وما تخشاه الأسواق، يبقى التأميم، ولو مؤقتًا، خيارًا لا يُستبعد في فرنسا التي اعتادت على المزاوجة بين الليبرالية والسلطة العمومية.
aXA6IDE4LjExOC4xODcuODMg
جزيرة ام اند امز