الأطفال ومرض "التلاسيميا".. قصص مؤلمة من لبنان
"التلاسيميا" مرض وراثي ناجم عن تغيِّر في الجينات اللازمة لتركيب خضاب الدم، في الجزيء المسؤول عن حمل الأوكسجين في الدم.
وإذا لم يعالج المريض فقد يصبح متوسط عمره المتوقع أقصر بكثير، ويتطلب العلاج نقل الدم، لكن هذا يسبب زيادة حِمل الحديد في الدم، ما يؤدي إلى أمراض في القلب والكبد وغيرها، لذلك يحتاج مرضى التلاسيميا إلى "خالبات الحديد".
وتعالج فرق أطباء بلا حدود في لبنان الأطفال المصابين بمرض التلاسيميا منذ عام 2018، وهو اضطراب جيني في الدم، ويحتاج هذا المرض في أشكاله الشديدة لعلاج مركَّز تقدمه أطباء بلا حدود في مستشفى الأطفال بمدينة زحلة الواقعة شرقي البلاد في وادي البقاع.
وتقدم وحدة التلاسيميا التابعة لأطباء بلا حدود في مستشفى إلياس الهراوي رعاية شاملة متعددة التخصصات تشمل التشخيص ونقل الدم والأدوية الخالبة للحديد والدعم النفسي الاجتماعي والاستشارات.
ومع الانهيار الاقتصادي في لبنان والأثر المالي لجائحة "كوفيد- 19" الذي أصاب الأسر الضعيفة أكثر من غيرها، فإن الحاجة لبرنامج يواصل تقديم الرعاية المنقذة للحياة لهؤلاء الأطفال لازمة أكثر من أي وقت مضى.
و"التلاسيميا" مرض يصعب على أي طفل التعايش معه، ويحتاج إلى دخول المستشفى بشكل متكرر، أحياناً ثلاث مرات في الشهر، ووخزات إبر متكررة، وتناول أدوية كل يوم لبقية حياتهم والعيش مع مضاعفات المرض. على الأطفال المصابين بالتلاسيميا التعامل مع ضغط الحياة المختلفة بطرق عديدة عن حياة أقرانهم، وتعلُّم التعامل مع حالة مزمنة.
لكن العيش مع التلاسيميا يصبح أصعب بالنسبة للأطفال اللاجئين في لبنان، حيث إن الوصول إلى الرعاية الصحية العامة محدود للغاية للسوريين، مثل الطفلين "عباس ويوسف".
تتذكر أم الطفلين، أمونة إبراهيم أحمد، الأسباب التي جعلتها هي وزوجها يقرران أخذ أولادهما إلى لبنان، فقد عانوا لسنوات من القصف عندما استولى تنظيم داعش على بلدة منبج التي كانوا يقطنونها ذلك الوقت، ولم تسمح الجماعة للمدنيين بمغادرة البلدة، ولم تعد "أمونة" قادرة على السفر إلى ثاني أكبر مدينة سورية، مدينة حلب، لشراء الدواء الذي يحتاجه ولداها للحفاظ على معدل الحديد في دمهما منخفضاً.
ثم حين استولت قوات سوريا الديمقراطية الكردية على المنطقة، أصبح السفر ممكناً من جديد، لكن خدمات نقل الدم كانت شبه متوقفة، وتقول "أمونة": "لمدة ثلاث سنوات كنت أرتب عملية نقل الدم في البيت.. لقد كانت فترة صعبة جداً".
تمكنت "أمونة" وزوجها من أخذ أولادهما إلى لبنان آملين أن تكون الحياة هناك أسهل، لكنهم سرعان ما اكتشفوا التكاليف الباهظة للرعاية الصحية في العيادات الخاصة بلبنان، كانوا على وشك الاستسلام والعودة إلى سوريا عندما علموا عن برنامج أطباء بلا حدود في مستشفى إلياس الهراوي في زحلة الذي يقدم رعاية شاملة مجانية لمرضى التلاسيميا أياً كانت جنسيتهم.
وتضيف "أمونة" التي تعمل في مزرعة محلية بأجر يومي، وزوجها يعمل نجاراً: "هنا في المستشفى يتلقى ولداي نقل الدم والدواء الذي يحتاجانه.. ونحن نأتي هنا منذ نحو ثلاث سنوات".
يقدم البرنامج الذي تديره أطباء بلا حدود في مستشفى إلياس الهراوي في قلب زحلة حالياً العلاج لـ96 طفلاً لديهم تلاسيميا، وتقول الدكتورة ليلى عيسى، مديرة الأنشطة الطبية في برنامج أطباء بلا حدود: "لقد زدنا عدد الأطفال الذين نعالجهم من 74 إلى 96 طفلاً في نوفمبر/تشرين الثاني"، وتتابع: "نتمنى لو كان بإمكاننا فعل المزيد لنستجيب للاحتياجات، إلا أننا محدودون بأسعار أدوية التلاسيميا المرتفعة".
بناء رابط أقوى
"عباس ويوسف" هما من بين الأطفال الذين يحضرون إلى المستشفى دورياً، ويعرف أفراد الطاقم مدى أهمية رفع معنويات الأطفال عندما يأتون لنقل الدم كل أسبوعين أو أربعة أسابيع، وتقول الدكتورة ليلى إن المستشفى قد أصبح مع الوقت "المكان الآمن، ومكان اللعب" لمرضى التلاسيميا.
بالنسبة لها، أحد أهداف المشروع هو أن يرى الأطفال "أنهم ليسو وحدهم، وأنه يمكنهم الذهاب إلى المدرسة وأن يكبروا ويذهبوا للجامعة، ويستطيعوا الزواج وإنجاب أطفال أصحاء".
ويُعد بناء رابط قوي مع أسر الأطفال المصابين بالتلاسيميا أمراً مهماً بشكل خاص، لأن المرض مرهق للغاية من الناحية العاطفية لكل من المرضى الصغار وأهاليهم.
وتضيف "ليلى": "لقد حقق المشروع دون شك فارقاً كبيراً في حياة هذه الأسر".
ويؤكد الدكتور علاء أبو فرح، طبيب الأطفال العامل مع أطباء بلا حدود: "التلاسيميا بشكل عام حالة صعبة جداً على الأهل والأطفال.. بعض الأسر تضطر للسفر مسافات طويلة للوصول إلى المستشفى من أجل نقل الدم المنتظم والمتابعة، ويواجهون مصاعب نفسية وعندنا مرشد نفسي يزورهم ليدعمهم".
يبكي دائماً ومضطرب
اللاجئة السورية "أميرة"، وهي أم محمد نور ذي العامين والنصف، والتي فقدت بنتها الكبرى بسبب التلاسيميا قبل تشخيص ابنها الأصغر بنفس المرض ممتنة لأنها تستطيع الوصول إلى الرعاية الصحية لابنها، في مستشفى إلياس الهراوي، بالمجان، ومع ذلك، فإن حياتهم كفاح يومي.
ويحتاج محمد نور إلى نقل الدم كل أسبوعين إلى أربعة أسابيع لتعويض نقص الخضاب في دمه.
وتقول "أميرة": "ماتت ابنتي ولكني أريد لابني محمد نور أن يعيش، لكنه يعاني كثيراً، ويبكي باستمرار ومضطرب دائماً، أرجو أن يتحسن كي يتمكن من عيش حياته كباقي الأطفال قبل فوات الأوان".
ويقول الدكتور هيثم بوحسين، مختص طب قلب الأطفال في المستشفى، إن معظم مرضى التلاسيميا الذين يتابعهم هم من اللاجئين السوريين، والكثير منهم يعيشون في مخيمات مرتجلة في المنطقة المحيطة بزحلة، رغم أن الطاقم يرى أيضاً بعض الأطفال اللبنانيين.
كوفيد- 19 وانفجار بيروت
وفقاً للأمم المتحدة، هناك نحو 880,000 لاجئ سوري في لبنان، حوالي 40 في المئة منهم يعيشون في وادي البقاع حيث يوجد مشروع التلاسيميا التابع لأطباء بلا حدود.
وانهيار الاقتصاد اللبناني وأثر جائحة "كوفيد- 19" صعّبا على الأسر السورية اللاجئة الوصول إلى خدمات الصحة العامة المثقلة مسبقاً، والكثير من السوريين يعيشون كمهاجرين غير مسجلين في لبنان، لا سيما الذين يعيشون في المخيمات المرتجلة المنتشرة في وادي البقاع، ويعد إيجاد عمل كريم أمراً صعباً بدون إقامة قانونية ومعارف، ما يترك الكثير من السوريين في دائرة من الفقر.
وأثرت جائحة "كوفيد- 19" على أسر الأطفال المصابين بالتلاسيميا من عدة نواحٍ. ويقول عامل الصحة المجتمعية سامي موسى، إن الأثر الأكبر هو الصعوبات المتزايدة في تأمين تبرعات الدم التي تنقذ حياة مرضى التلاسيميا.
وفي ظل قيود جائحة "كوفيد- 19"، غالباً ما تكون الطرق المؤدية إلى البلدات مغلقة والتجمعات العامة محظورة. ويقول "موسى": "نحاول جهدنا أن نحث الناس الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين حولنا على التبرع بالدم، لكن هناك صعوبة في ذلك لأن الناس يتجنبون التعامل مع الطواقم الطبية إلا إذا كانت لديهم ضرورة طبية.. هم خائفون منا بسبب عملنا، ويعتقد بعض الناس أننا نشكل خطر عدوى كوفيد-19".
ويضيف: "كل يوم نشرح للناس في المجتمعات التي نعمل معها، لنقنعهم أن التبرع بالدم أمر آمن".
وزاد الانفجار الذي ضرب مرفأ بيروت يوم 4 أغسطس/آب 2020 من صعوبة الوضع، فعندما كان "موسى" وفريقه يتحدثون للناس على أمل أن يتبرعوا بالدم عقب الانفجار، كان الكثيرون يجيبون أنهم تبرعوا للجرحى.
وتشكل قلة المتبرعين خطراً أكبر على ذوي زمر الدم النادرة كزمرة الدم (O سلبي) أو (AB سلبي).
ويقول "موسى": "نقوم بتوسيع المناطق التي نستهدفها لإيجاد متبرعين. سنواصل السعي والكفاح.. هذه هي الطريقة الوحيدة".
وتقول غرام غانم، مشرفة العلاقات الخارجية في أطباء بلا حدود لبرنامج زحلة، إن إحدى الطرق التي تحرص هي وزملاؤها من خلالها على توفُّر ما يكفي من تبرعات الدم هي توفير المواصلات للمتبرعين إلى مراكز الصليب الأحمر اللبناني التي تعمل مع أطباء بلا حدود.
وتقول "غرام": "نقل الدم الذي يتم في المستشفيات مكلف جداً.. الأسر اللاجئة والأسر الأخرى الضعيفة تواجه بالفعل صعوبة في تأمين طعامها، ناهيك عن التكاليف الطبية.
بداية الكابوس
كانت الحرب مستعرة في سوريا عندما فر هاني وزوجته إلى لبنان. ولم تمض مدة طويلة على ولادة ابنتهما الأولى، "دلال"، حتى تبين أنها مصابة بالتلاسيميا. ويقول: "كانت تلك بداية كابوسنا".
كان على "هاني" وزوجته أن يدفعا مبلغ 200 دولار عن كل نقل دم تحتاجه "دلال" كرسوم للمستشفى فقط، ويضيف: "كان دفع رسوم المستشفى أهم عندنا حتى من شراء طعامنا.. الأمر كان صعباً لدرجة كبيرة، وحتى مذلاً، أن تجد متبرعاً كل مرة لتأمين الدم اللازم لكل عملية نقل.
ويروي الأب، الذي يكسب ما معدله في الشهر 300 دولار من عمله في دهن البيوت، حادثة جرت عندما كانت ابنته شديدة الاعتلال واحتاجت للبقاء في المستشفى. وعندما تحسن حالها، طلب منه المستشفى دفع مبلغ 2000 دولار كرسوم – وهو مبلغ لا يمكنه هو وزوجته دفعه.
"تركت بطاقتي الشخصية لدى المستشفى حتى تمكنا من تخريجها، ثم بعت جميع أغراضي، ومع ذلك لم يؤمِّن لنا ذلك سوى نصف المبلغ.. استدنت من جميع من أعرف، ومع ذلك لم يكفِ. اضطررت لأن أبقى بدون بطاقة شخصية لعام كامل – ولك أن تتخيل كم هو صعب هذا الأمر وخطير للاجئ سوري في لبنان" يروي "هاني".
بعدها حدث تطور إيجابي في عام 2018 عندما عَلِمَ عن برنامج أطباء بلا حدود. دلال الآن عمرها سبعة أعوام وتتلقى متابعة منتظمة ومجانية.
يقول "هاني": "أرى الآن حبيبتي دلال تبتسم وتلعب كأي طفل آخر.. أنا سعيد أنها تتلقى أفضل علاج ممكن لمرضها وبالمجان، ويقدمه ألطف طاقم طبي التقيته في حياتي".
aXA6IDE4LjIyMS42OC4xOTYg
جزيرة ام اند امز