في عالم يمرّ بتحوّلات عميقة على المستويين الاقتصادي والجيوسياسي، تبرز الصين اليوم بوصفها قوة فاعلة في صياغة مستقبل التنمية العالمي، ورمزا للاستقرار والانفتاح في زمن يزداد فيه الغموض والتحدّيات.
ومع انعقاد القمة الثانية والثلاثين لقادة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ، قدّم الرئيس الصيني شي جين بينغ رؤية متكاملة تُلخّص فلسفة الصين في التنمية: "مع الصين تمضي مع الفرصة، والاستثمار في الصين هو استثمار في المستقبل".
هذه العبارة ليست شعارا للاستهلاك الإعلامي، بل تعبير عن واقع عمليٍّ تشكّل عبر أربعة عقود من الإصلاح والانفتاح، وتبلور في رؤية الصين للتنمية عالية الجودة، التي تربط بين الانفتاح الاقتصادي والابتكار الصناعي والعدالة الاجتماعية، لتصبح التجربة الصينية نموذجا ملهما للعالم، ولا سيما للدول النامية والعربية منها.
لقد دخلت الصين مرحلة جديدة من تاريخها الاقتصادي، حيث لم تعد تسعى إلى تحقيق النموّ الكمي فحسب، بل إلى بناء اقتصادٍ نوعيّ يعتمد على الابتكار، والتكنولوجيا الخضراء، والتنمية المستدامة. وهذه المرحلة التي أطلق عليها الرئيس شي "مرحلة التنمية عالية الجودة"، تعني أن الصين لا تكتفي بأن تكون مصنع العالم، بل تهدف إلى أن تصبح مختبر المستقبل.
في هذه الرؤية، لا ينفصل الاقتصاد عن الإنسان، ولا النموّ عن البيئة. فالتنمية في المفهوم الصيني اليوم هي تنمية شاملة توازن بين الكفاءة والعدالة، وبين الانفتاح والسيادة، وبين الطموح الوطني والمصلحة المشتركة.
ومن هنا نفهم قول الرئيس شي جين بينغ في كلمته أمام قادة أَبِيك: "إن بناء اقتصادٍ منفتحٍ ومندمجٍ في آسيا والمحيط الهادئ هو السبيل إلى تحقيق الازدهار المشترك للجميع". هذه الرسالة ليست موجهة للصين وحدها، بل للعالم بأسره، وفي مقدّمته العالم العربي الذي يبحث عن نماذج تنموية مستقرة وقابلة للتطبيق.
تفتح الصين أبوابها على مصراعيها للعالم، وتعلن بثقةٍ أن انفتاحها سيزداد عمقاً واتساعاً. وقد أكّد الرئيس شي في أكثر من مناسبة أن الصين لن تغلق أبوابها أبداً، بل ستفتحها على مصاريعها لكل من يريد التعاون على أساس المنفعة المتبادلة.
هذا الانفتاح ليس شكلياً، بل مؤسَّس على قاعدةٍ متينة من الإصلاح الاقتصادي وتحسين بيئة الأعمال. فقد خفّضت الصين القوائم السلبية للاستثمار الأجنبي، ووسّعت المناطق التجريبية الحرة، وسهّلت إجراءات دخول المستثمرين، كما تبنّت سياسة أكثر شفافيةً وعدالةً في المنافسة بين الشركات المحلية والأجنبية.
في زمنٍ تتزايد فيه حالة عدم اليقين في الأسواق العالمية، تظلّ الصين نقطة ارتكازٍ موثوقة للاستقرار والنمو. فهي أكبر سوقٍ استهلاكية في آسيا، وثاني أكبر اقتصادٍ في العالم، وتمتلك قاعدةً صناعية وتقنية هائلة تدفع بالابتكار في مجالات الذكاء الاصطناعي، والطاقة الجديدة، والسيارات الكهربائية، والاقتصاد الرقمي.
إنّ ما يميز الصين ليس فقط حجم اقتصادها، بل قدرتها على التجدد والتكيّف. فبينما تتباطأ اقتصادات متقدمة في الغرب، تواصل الصين تطوير سلاسل إمدادها الصناعية وتحديث بنيتها التحتية الرقمية، وتعمل على دمج الاقتصادين الأخضر والرقمي لخلق "نموٍّ ذكي" ومستدام.
ولهذا قال الرئيس شي جين بينغ في كلمته الأخيرة: "سنواصل تعزيز الانفتاح عالي المستوى، وسنوفّر فرصاً جديدة للعالم من خلال تنمية الصين المستمرة".
إنّ الاستثمار في الصين اليوم يعني الاستثمار في التحوّل التكنولوجي العالمي، وفي الأسواق الصاعدة، وفي الاتجاهات المستقبلية التي ستقود الاقتصاد العالمي في العقود المقبلة.
شهدت العلاقات الصينية العربية خلال السنوات الأخيرة تطوراً غير مسبوق على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية. فقد أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر للعديد من الدول العربية، وتضاعف حجم التبادل التجاري بين الجانبين ليصل إلى مئات المليارات من الدولارات.
ومع انعقاد القمة العربية الصينية الأولى في الرياض، ثم الاستعداد للقمة الثانية في بكين، دخلت العلاقات مرحلةً جديدة قوامها "التنمية المشتركة وبناء المستقبل معاً".
إن الرؤية الصينية تقوم على مبدأ "التكامل لا التبعية"، و"الاحترام المتبادل لا الإملاء". وهي رؤية تتقاطع تماماً مع تطلعات الدول العربية في تحقيق تنميةٍ سياديةٍ مستقلة، قائمة على الشراكة الحقيقية.
في مجالات الطاقة والتحوّل الأخضر، تفتح الصين آفاقاً جديدة أمام الدول العربية عبر تقنيات الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر. وفي مجالات البنية التحتية والذكاء الصناعي، تقدم الخبرة والتكنولوجيا، بينما يقدّم العالم العربي الموارد والموقع الاستراتيجي والأسواق الواعدة.
وهكذا، تتحول العلاقة الصينية العربية من علاقة "تجارة وتبادل" إلى علاقة "صناعة وتنمية"، ومن علاقة "شراكة ظرفية" إلى "مصيرٍ مشترك" يستند إلى قاعدة الثقة والمصلحة المتبادلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة