أظهرت صولات وجولات مؤتمر ميونيخ للأمن الأخيرة علو نجم الصين.
إذ سُلطت الأضواء على دبلوماسيتها، التي تحاول لعب دور حمامة السلام على صعيد الحرب الروسية الأوكرانية، والتي دخلت عامها الثاني من غير أدنى رؤى مستقبلية لنهاية المواجهات العبثية بين دولتين جارتين، تجمعهما جذور عرقية تكاد تكون واحدة.
طرح الصينيون مبادرة من ست نقاط، لا حضور لليوتوبية فيها، بل تذكير بالقوانين والمواثيق الدولية، والسعي وراء حالة السلم العام حول الكرة الأرضية، تلك التي باتت مهددة بأهوال المواجهات ما بعد التقليدية.
تبدأ المحاور من عند التمسك برؤية للأمن على أساس أنه مشترك وشامل، ثم تدعو لاحترام سيادة وسلامة أراضي جميع البلدان، وتنتقل إلى الحث على التزام مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وتتوقف عند أخذ المصالح الأمنية المشروعة لجميع الدول على محمل الجد، ولا تنسى التوصية بالتمسك بالحلول السلمية للخلافات والنزاعات بين الدول، وصولا إلى ضمان الأمن في المجالات التقليدية وغير التقليدية.
وجدت مبادرة الصين ترحيبا أوروبيا بصورة أو أخرى، وإن كانت المنسقة العامة للاتحاد الأوروبي طالبت بمزيد من الأدلة على أن الصين لا تعمل مع روسيا، غير أنه في الوقت عينه أشارت إلى أن أوروبا مطمئنة نسبيا للصين، شريطة ألا تلعب دورا داعما لروسيا.
الموقف الأمريكي كان لا بد له أن يأتي مشككا ومحذرا من نيّات الصين، الأمر الذي تمثل في تصريحات نائبة الرئيس، كمالا هاريس، والتي أعربت عن قلق أمريكا من قيام الصين بـ"تعميق" علاقاتها مع موسكو منذ بدء الحرب.
ويرى الصينيون، كما تحدث وزير خارجيتهم في ميونيخ، أن "هذه الحرب لا يمكن أن تستمر في الاشتعال... وأن وحدة وسيادة جميع الدول سيتم احترامها في اقتراح الصين..."، قاطعا بأن بكين ستواصل العمل من أجل السلام.
يتساءل المرء: هل هناك من حظوظ حقيقية على الأرض لنجاح الوساطة الصينية، بدءا من هدنة طويلة الأمد، مرورا بمفاوضات ثنائية جادة بين كييف وموسكو، وصولا إلى توقيع اتفاقية سلام بين الجارين اللدودين؟
يمكن للمرء أن يستشف مستقبل المبادرة من خلال الإصرار، الذي أبداه الرئيس بايدن، خلال زيارته المفاجئة لأوكرانيا، وتأكيده أن بلاده ستدعم أوكرانيا في مواجهة روسيا و"عدوانها"، على حد تعبيره.
وعود بايدن يجري تنفيذها من وراء الكواليس، وهو ما كشفت أبعاده صحيفة "الواشنطن بوست" الأمريكية قبل عدة أيام، حيث نشرت ما يفيد أن "البنتاغون يحث مجلس الشيوخ على مواصلة تمويل برنامجين سريين للغاية في أوكرانيا".. ماذا عن تلك البرامج؟
الصينيون بالتأكيد يراقبون استخباراتيا المعركة على الأرض في أوكرانيا، ويدركون أن قوات العمليات الخاصة الأمريكية تسعى جاهدة في طريق تجنيد أوكرانيين لمراقبة التحركات العسكرية الروسية، والتصدي للمعلومات المضللة، ناهيك بالتجهيزات الجارية على قدم وساق، بهدف إرسال أسلحة حديثة تغير وضع كييف.
ولم يعد الأمر سرا أن أوكرانيا هي وكيل الناتو على الأرض في مواجهة روسيا، كما أن استئناف البرامج السرية الأمريكية على الأراضي الأوكرانية يبعث رسالة سياسية قوية، مفادها أن الولايات المتحدة مصرة على حماية كييف، بحيث تتمكن من السيطرة على حدة الصراع في المرحلة التالية.
فهل لواشنطن مصلحة ما في التدخل المتزايد من وراء الستار، وتأجيج الصراع وإطالته لأكبر وقت ممكن، ولتذهب الصين ومبادرتها ما لها أن تذهب؟
تعتقد بكين في أن هناك سيناريو ما يتم تدبيره لموسكو، وغالب الظن أنهم طالعوا ما تحدث به زيجينو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي في إدارة جيمي كارتر، والرجل الذي عمل جاهدا على إغراق الاتحاد السوفييتي في أفغانستان.
بريجنسكي، وفي عام 1997، تحدث عن "حتمية تفكيك وتفخيخ روسيا الاتحادية"، بالضبط كما جرى مع الاتحاد السوفييتي من قبل، وذلك قطعا للطريق على صحوة الروس من جديد.
لا تفرق البراغماتية السياسية بين الشرق والغرب، وكما لواشنطن رغبة في أن تظل سيدة العالم المتسنمة قمته، نجد الصين بدورها تسعى جاهدة لإنهاء هذه الحرب، إذ ليس من مصلحتها تفتيت روسيا أو استنزافها في حرب طويلة المدى.
من جانب آخر، لا يود الصينيون أن يجدوا أنفسهم خلوا من الحضور الروسي، حال القارعة المتمثلة في فخاخ المواجهة المسلحة المفتوحة مع الولايات المتحدة الأمريكية، من عند بحر الصين الجنوبي، وصولا إلى تايوان.
يصف وزير خارجية الصين العلاقات الروسية-الصينية بأنها "متينة كصخرة"، وستصمد أمام تقلبات الوضع الدولي.. فهل ستجني بكين حلفا سياسيا وعسكريا روسيا صينيا قادرا على مواجهة ومجابهة واشنطن في شرق آسيا عما قريب؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة