"ترومان" فيلم أمريكي للممثل جيم كاري، يعتبر أول أفلامه الجادة البعيدة عن الكوميديا، يناقش فلسفة سيطرة وسائل الإعلام على البشر.
يحكي الفيلم عن موظف سعيد يعمل في شركة تأمين برفقة زوجته الشقراء الجميلة، وعلى الرغم من أن حياته شبه كاملة خارجيا، فإن "ترومان" كان يشعر دائما بخواء، وكأن عالمه الداخلي ينهار بسبب ضياع رسالته، لذلك فكّر في السفر حول العالم لاستكشاف المعنى من حياته أو ممارسة عمل ما يقربه من ذاته الحقيقية.
وفي أحد الأيام بالمصادفة يكتشف أنه أحد أشهر نجوم أمريكا في برنامج واقعي يبث على مدار الساعة بدأ عرضه منذ ولادته بالاتفاق مع والديه، فيدرك أن حياته ليست حقيقية، إنما مجرد عرض ترفيهي يشاهده المراهقون والعاطلون عن العمل في منازلهم، يشارك فيه مجموعة من الممثلين، بمن فيهم أصدقاؤه وزملاء العمل، حتى زوجته بمساعدة 5 آلاف كاميرا مزروعة في كل مكان.
مع تطور الأحداث يعرض المخرج على "جيم كاري" أن يوافق على الاستمرار في أداء دوره بالبرنامج، الذي أوصله إلى جماهيرية كبيرة ويستكمل الحلقات بعد أن عرف الحقيقة ليحظى بمزيد من النجاح والمال.. لكن وعيه يلزمه بأن يختار عيش واقعه وحقيقته بعيدا عن وهم الإعلام والكاميرات.
قصة الفيلم تذكرتها بعد رؤيتي السعادة والكمال المطلقين متجسدين أمامي، وهو أمر يكاد يكون ضربا من الجنون في الواقع.
نعم "مدينة أفلاطون الفاضلة"، التي نشدها الفلاسفة وغازلت قلوب الشعراء موجودة عند البلوجر الفلاني والفاشينستا الفلانية، التي تعمل كمصممة أزياء، وفي الوقت ذاته كاتبة وخبيرة تنمية بشرية ومديرة شركة ناجحة وأم لأربعة أبناء ورياضية نشطة ومتأملة عميقة في دراسات الذات والروحانية.
لن أتحدث هنا بـ"كليشيهات" استهلاكية حول الزيف، الذي يوهمنا به هؤلاء، فقد قتلت هذه المواضيع بحثا في دراسات البحوث الاجتماعية والتحقيقات الصحفية خلال العامين المنصرمين، ولا أريد لومها، فمنها ما له أثر إيجابي للباحثين عن الإلهام.
ليست المشكلة في الأكاذيب، التي يسوقون لها أو يبيعونك إياها، بل المفارقة المضحكة المبكية في الوقت ذاته أنني كمراقبة للظواهر الاجتماعية وتحليلها كإعلامية، وخلال أدائي وظيفتي، سحرتني القصة وذابت لدي الحدود الفاصلة بين ما هو واقعي وما هو افتراضي، شعرت في لحظة بأنني جزء من موجة الهوس واقتفاء الأثر والإعجاب بشخصيات "الرخام" المثالية، إلا أن جملة الكاتب الفرنسي غوستاف لوبون كانت تتردد في أذني "الجمهور انفعالي على غرار الإنسان الهمجي، لا يعبأ بشيء، تنطمس فيه سمات الشخصية الواعية فتجره الأمواج مع القطيع".
لذلك سُقت العذر لصديقتي المهووسة بهذا العالم الذي يسلبك إرادتك رغما عنك، هي لا تريد الارتباط برجل يمتلك "نجمتين" لأنها تتابع "أبو 7 نجوم"، نجمتان غير كافيتين لسعادتها.
بل إن حياتها استمدت خواصها من السويشال ميديا، فهي تمرر تجاربها وكأنها مقاطع في "السناب" وتضغط "سكيب" على الوظيفة غير المناسبة، "سكيب" على الفستان ذي الجودة السيئة، "سكيب" على الفكرة أو المعتقد الذي لا يناسبها، "سكيب سكيب سكيب"، لا مجال للنقاش أو المراجعة، كأنها تتابع أحد النجوم، ترقبا لما هو أفضل وأجمل، مؤمنة بأن هناك دائما الأحسن والبراق والفائق في الامتياز، وهو ما لا يحدث في الواقع.
خلاصة القول، كل تلك الضوضاء تتعدى مجرد مشاهد تسلينا في أوقات فراغنا، بل في كثير من الأحيان تقف حاجزا أمام صوتنا الداخلي والاقتراب من حقيقتنا، فهل ينبغي أن نتألم حتى نتغير أم نستمر في عيش كذبة ترومان؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة